عبد الغني مزوز—
هل يجب أن نكون بذكاء شارلوك هومس حتى نفهم ما يحدث اليوم في المنطقة، لأن السردية التي يراد لنا أن نقتنع بها تقول بأن قوى الخير اتحدت في تحالف كوني وقررت هزيمة قوى الشر . إذا لم تقتنع فتحلى ببعض السذاجة وشاهد قناة العربية يوميا و بعد فترة ستتأكد كم يحتاج العالم إلى التطهير من رجس إرهاب الميلشيات السنية، لينعم بالأمان والسعادة والرفاه.
العالم يتابع سقوط مدينة كوباني بالمليمترات, ويتابع خطى عناصر تنظيم الدولة حذو النعل بالنعل، سقطت بناية، بعد ربع ساعة خبر عاجل: لقد سقطت بناية مجاورة أخرى،عناصر حزب العمال تراجعوا بمقدار نصف متر، بعد دقائق مراسلنا يفيد بأن عناصر الحزب أحرزوا تقدما بثلاث خطوات للأمام، خبر عاجل تأخذ مساحته الحمراء نصف الشاشة يفيد بتحرك الدبابات التركية لمليمترين للأمام، بعد ثواني خبر آخر في نفس المساحة الدبابات تعود لمواقعها…
في الجانب الآخر وفي هدوء وصمت يلتقم الحوثة صنعاء وقد تلبث في بطنهم إلى يوم يبعثون، لأن المنظومة الدولية التي تهيئ المنطقة لخريطة جديدة وحدود جديدة تريد ذلك. كوباني وأربيل خطان أحمران دونهما حمم الدرونز وشهب الاف16 لأن السادة ملاك الأرض الجدد ورثاء سايكس وبيكو قرروا تغيير الحدود الاعتباطية التي خطها الأوروبيون الانتهازيون، وخلق كيان كردي مستقل يجمع شتات أكثر من 30 مليون كردي لماذا ؟ الجواب بعد قليل..
الغرب سعى مند بداية الثورة السورية إلى الحفاظ على بشار الأسد و نظامه في سوريا، وحاول بشتى الطرق إنهاء الثورة أو تحريف مسارها على الأقل لتسفر عن نظام يحاكي النظام الطائفي المتداعي. أعطى الضوء الأخضر لبشار ليستخدم كل أنواع الأسلحة المتاحة لإقبار الثورة، وسهل مرور المرتزقة وفرق الموت الشيعية لمساندة قواته، بينما وضع ترسانة من القوانين والإجراءات الدولية لملاحقة الثوار وتصنيف جماعاتهم في لوائح الإرهاب وتجريم المساندة الشعبية والدعم المالي والمعنوي لهم.
لماذا تدعم دول الغرب بقاء الأسد ونسقت سفاراته في اليمن مع الحوثيين في عملية سيطرتهم على صنعاء في تفاهم واضح ومعلن مع إيران؟ الجواب بعد قليل..
تنظيم الدولة الإسلامية كان من أهم عوامل الضعف والتراجع في الأداء الثوري بسوريا، شكل اشتباكه مع الثوار لحظة فارقة في عمر الثورة حيث خسر الثوار مواقع كثيرة لصالح النظام والميلشيات الشيعية المساندة له و أخليت كثير من نقاط الرباط والتماس، وتحركت كتائب تنظيم الدولة الإسلامية لسحق ما أسماهم بالصحوات والمرتدين. كانت مشاهد الجلد وقطع الأطراف والصلب والرجم تشعر الغرب بالسعادة والنشوة، فالمشروع الإسلامي السني يلفظ أنفاسه الأخيرة والبديل الإسلامي المنشود ظهر إفلاسه حتى قبل قيامه، والكيان السني المزمع إنشاءه سيشغله الاحتراب البيني لعقود طويلة .
تمدد تنظيم الدولة في مناطق شاسعة وارتكب مجازر مرعبة, توغل في دير الزور وذبح المئات من قبيلة الشعيطات السنية في لحظات وهجر الآلاف، ولا كلمة إدانة من المجتمع الدولي. لكن لما دخل سنجار واقترب من أربيل أرسل الغرب على الفور طائراته المقاتلة ليوقف زحف التنظيم، ولينجد عشرات العوائل الأيزيدية المهجرة ويلقي لها بالطعام والماء, ليجعل من قضية الأيزيدين قضية إنسانية تستحق الدعم والمساندة الدولية، مع أنه لم يقتل من الأيزيدين ولا 10 بالمائة ممن قتل من أبناء قبيلة الشعيطات وحدها, ليصبح تنظيم الدولة العدو الأول لأنه تجرأ على تجاوز حدود الدم التي رسمها رالف بيترز, وكان الأولى به أن تضل فضاعاته وانتهاكاته محصورة داخل الإقليم السني المراد إنشاءه، وللسبب الأخير فقط سمح له بالتمدد وسمح للآلاف من أنصاره بالالتحاق به.
ربما المسألة تنطوي على تعقيدات كثيرة ومساحات ظل شاسعة، وغموض مربك وتناقضات محيرة. لكن إذا وضعنا أيدينا على مفتاح السر ستنكشف لنا القضية ببساطة ووضوح، ومفتاح السر هنا هو “إسرائيل وأمنها”.
الغرب يدرك جيدا أن الأنظمة الوظيفية العتيقة التي عكفت على ضمان إسرائيل في طريقها إلى الزوال وعوامل زوالها كثيرة جدا أولها الاحتقان الاجتماعي والسياسي، وآخرها حالات الصراع بين الأجنحة الحاكمة على النفوذ والسلطة ما يندر بالتفكك والانهيار. وصعود الإسلام الثوري والجهادي الذي استعاد زخمه بعد موجة الثورات المضادة لا شك فيه، إذن فما البديل ؟
واقعيا ليس هناك من وفر الحماية لحدود إسرائيل غير بشار الأسد في سوريا وحسن نصر الله في لبنان ولهذا فالغرب يدفع بشدة نحو إقامة كيان شيعي قوي يواصل مهمة الحماية لإسرائيل ويكون بديلا عن دويلات الطوائف السنية الآخذة بالزوال ولأنه اتفق مع إيران على كل شيء, فليكن اليمن جزء من الكيان وسوريا ولبنان والعراق كذلك.. المهم هو إنشاء كيان شيعي يضع يده على موارد ومقدرات المنطقة، يلتزم الغرب بتأهيله ودعمه ومساندته في الحروب الطائفية القادمة ضد السنة، مقابل بقاء ولاءه المطلق لأمن إسرائيل.
مهمة حماية إسرائيل لن توكل فقط للكيان الشيعي المرتقب، فالأكراد برهنوا على صدق تطلعاتهم نحو علاقات أكثر تميزا وخصوصية مع إسرائيل فكردستان بمثابة البيت الثاني للإسرائيليين، وشريك اقتصادي وسياسي وثقافي لا مثيل له, فليأخذ الأكراد إذن دولة لهم، تجمع شتاتهم وتكون منارة علمانية في المنطقة، وتلتزم فيما تلتزم به أمن إسرائيل وعلاقات قوية معها في كل المجالات والصعد. وويل لكل من يقترب من حدودها أو يربك مخطط قيامها ضمن حدودها المرسومة وعاصمتها المرتقبة كوباني، من هنا سنفهم لماذا كل هذا الصياح على أربيل و كوباني ولماذا الصمت على صنعاء.
كان أمل الغرب أن يبقى السنة ضمن دويلات أو أقاليم مفككة متناحرة، أو تحت رحمة جماعات متشددة كتنظيم الدولة تأخذ على عاتقها إعادة السنة إلى ما قبل التاريخ بينما الكيان الكردي والشيعي يحظيان بالدعم اللازم ليكونا قوتين كبيرتين.
الغرب استطاع أن يحل الأزمة التي خلفها وجود حكم إسلامي في مصر والذي جعل إسرائيل لا تحضا بما يكفي من الأمن والأريحية لتمارس إرهابها وحصارها وإجرامها المعتاد، انتهى كابوس الحكم الإسلامي في مصر من خلال تدبير انقلاب عسكري دموي هناك، ولا نية لدى الغرب ليغامر بدعم تجربة تحررية جديدة تفرز نظاما آخر لا يجعل من أمن إسرائيل أولى أولوياته.
كما أن تركيا – وهي تمثل خط الدفاع الأخير عن الربيع العربي ومكتسباته – بسياستها الراهنة، تشكل عامل قلق متزايد لإسرائيل والغرب وعموما، وبالتالي فإضعافها أمر ضروري للغاية، ولا شيء يمنح الفرصة لفعل ذلك غير اللعب على وثر الأقليات خصوصا الكردية منها، التحالف الدولي يحاول جاهدا توريط تركيا في مستنقع كوباني، وتحويل الجيش التركي لمنديل يمسح به الغرب قذارته. المهمة الآن هي إرباك الوضع الداخلي لتركيا وتوريط الجيش التركي في معارك خارجية، وتمكين الدولة الموازية داخل تركيا من الصعود والإمساك بمفاصل الدولة، وإنهاء تجربة العدالة والتنمية الناجحة ليسدل الستار على نهضة وتألق تركيا لأنها دعمت بصدق ثورة العرب وانتفاضتهم.
من هنا فأي حدث وأي موقف وأي تصريح يمكن أن يفهم إذا وضع في مكانه الصحيح ضمن السياقات التي ذكرنا. هكذا يكيدون وهكذا كذبوا على الجميع عندما ادعوا دعم الثورة في سوريا وخيارات الشعوب واستقلالها. لكن اللعبة لتوها بدأت، والأفق ينبئ بريح قد تسير بما لا تشتهي سفنهم..لننتظر.
تابعني على تويتر