كانت الفترة الماضية مأساوية على التنظيم العتيد الذي أسسه أسامة بن لادن، فإضافة إلى الإرتباك الذي مس البنية التنظيمية والفكرية للقاعدة بسبب ظهور فاعل جهادي جديد على الساحة (داعش)، كان توالي سقوط كوادرها ورموزها بشكل مريع مؤشرات استشرف من خلالها البعض أفول حقبة القاعدة، ليحل مكانها جيل جديد من الجهاديين أشد فتكا وأصعب مراسا. غير أن المرونة التي تعاملت بها قيادات القاعدة وعقولها المفكرة مع الأحداث التي اجتاحت مختلف الساحات ومسارعتها إلى ترميم الثغرات على مستوى خطابها السياسي والشرعي وهيكلها التنظيمي، حد من تداعيات الأزمة التي عصفت بها، وأعادت من جديد الزخم والفاعلية لخطها الجهادي ( المدرسة الخرسانية ) على حساب خط “داعش” الموسوم بالتشدد والغلو ( المدرسة العراقية ) هذه الأخيرة التي باتت تفقد الكثير من وهجها وبريقها.
التوسع والإنتشار
خلال الفترة الماضية كانت أكثر البيانات التي تصدر عن تنظيم القاعدة بيانات نعي لقادتها ورموزها، فقد قتل الرجل الثاني في التنظيم ونائب أيمن الظواهري اليمني أبو بصير ناصر الوحيشي، وقبله كل من نبيل الذهب، و حارث النظاري، و نصر الانسي، وابراهيم الربيش، ومأمون حاثم، و ادم يحيى غدن المعروف بعزام الأمريكي، و أحمد فاروق نائب أمير التنظيم في شبه القارة الهندية، وقاري عمران، ومختار أبو الزبير أمير التنظيم في الصومال، وأخيرا أعلنت وفاة الملا عمر، الذي تدين له القاعدة بالبيعة العظمى، هذه اللحظة التراجيدية في مسار تنظيم القاعدة لم يكن لها كبير أثر على فاعليتها في عدد من الساحات، كما أن كثير من المؤشرات التي سنأتي عليها في ثنايا هذا المقال لا يمكن أن تقرأ إلا في سياق إعادة بعث للتنظيم وترتيب أوراقه من جديد، والدفع بمشروع القاعدة إلى مزيد من الإنتشار في كل المناطق والساحات الملتهبة، والإمساك بزمام الفعل والمبادرة فيها مرة أخرى.
لم يكن الإعلان عن فرع جديد لتنظيم القاعدة في شبه القارة الهندية في سبتمبر 2014 إلا باكورة استراتيجيه غير معلنة من القاعدة، هدفها الانتشار والتوسع الجغرافي، وعدم ترك أية بياضات يمكن أن يستغلها تنظيم الدولة الإسلامية في مساعيه نحو التمدد وتدشين الولايات، وتوخى التنظيم أثناء إعلانه للفرع الجديد في شبه القارة الهندية أن يكون الفرع أكثر وضوحا وتماسكا وتنظيما من الناحية الفكرية و المؤسساتية، فقد عين للفرع أمير ونائبه وناطق رسمي، كما تم الحرص في البيان الأول على توضيح أن القاعدة مرتبطة بالملا عمر بمقتضى بيعة عظمى، إليها تعود كل نصوص الطاعة والولاء الواردة في القران والسنة.
في ليبيا يبدوا المشهد الجهادي هناك في صالح القاعدة، بعدما استطاعت مجموعات جهادية مقربة منها دحر تنظيم “داعش” من درنة، وهي من أهم معاقله في ليبيا، كما تحتفظ “جماعة أنصار الشريعة” أكبر التشكيلات الجهادية في ليبيا بزخمها القتالي وحضورها الميداني، وهي الجماعة التي تأكد أخيرا ارتباطها بتنظيم القاعدة باعتراف المصري عمر رفاعي سرور نجل الشيخ رفاعي سرور المنظر الجهادي المعروف والمسؤول الشرعي في كتيبة شهداء بوسليم.
في يوليو الماضي أعلن في مصر عن “جماعة المرابطون” بقيادة هشام عشماوي و استهلت الجماعة بيانها الأول بكلمة صوتية لأيمن الظواهري، ما يوحي أن الجماعة وأميرها يسيرون على الخط الجهادي الذي تتبناه القاعدة، وقد كتبت مقالا سابقا رجحت فيه أن تكون الجماعة مرتبطة عضويا بتنظيم القاعدة(1)، وأن هشام عشماوي انشق عن جماعة أنصار بيت المقدس بعدما أعلنت هذه الأخيرة ولائها للبغدادي، وأسس تنظيما جهاديا يمكن اعتباره حجر الأساس لمشروع القاعدة في مصر .
بعد الخلافات التي نشبت بين الجهاديين في الصحراء الكبرى “غرب إفريقيا” بين جناح يصر على بيعته للبغدادي (عناصر من جماعة التوحيد والجهاد) وقطاع آخر متمسك بالولاء للقاعدة (الموقعون بالدم)، حسمت جماعة المرابطون قرارها، وقامت بعزل قيادتها المقربة من تنظيم الدولة الإسلامية، وتنصيب خالد أبو العباس أميرا جديدا عليها، وأعلنت في بيان لها عن إسمها الجديد ” تنظيم قاعدة الجهاد في غرب إفريقيا” وشدد بيانها على التمسك بتوجيهات قيادة القاعدة.
إذن القاعدة قررت في استراتيجية غير معلنة التوسع وبسط النفوذ، وإعادة الإنتشار، بل ويرجح أن تمضي القاعدة إلى ابعد من هذا، فحسب بعض التسريبات من مصادر جهادية مطلعة يُنتظر أن تعلن القاعدة عن إعادة إحياء فرعها العراقي ” تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين” والترتيبات في هذا الصعيد جارية على قدم وساق، وسبق لأبي محمد الجولاني قائد جبهة النصرة أن أطلق إشارات في هذا الإطار(2).
ترميم الثغرات وإعادة تشييد الخطاب
من خلال رصد الفعل الجهادي القاعدي يستنتج المراقب أن هذا الفعل انخرط في سياقات من التحول والتجديد، تدل دون شك على مراجعات واجتهادات نقدية على مستوى الخطاب السياسي والشرعي، كاشفة عن شجاعة كبيرة لدى منظري التنظيم، حين استطاعوا تقديم طروحات جديدة، انهالت عليهم بسببها تهم التكفير والصحوة والعمالة من لدن خصومهم من مؤيدي تنظيم الدولة في مختلف المنابر ووسائل التواصل الإجتماعي.
بعد مقتل أبو بصير ناصر الوحيشي نائب أيمن الظواهري(3) أفرجت مؤسسة الملاحم التابعة لفرع التنظيم في اليمن عن محاضرة للوحيشي، تتطرق فيها إلى موضوع ” تطبيق الشريعة”، وتحدث الوحيشي بصراحة عن سوء الفهم الكبير الذي تعاني منه شرائح من الجهاديين لموضوع تطبيق الشريعة وإقامة الحدود، وقال بأنه قد يكون: ” من تطبيق الشريعة عدم تطبيق الشريعة”، وأن نصرة الشريعة لا يكون بالتطبيق الحرفي لها دون مراعاة الظروف وأحوال الناس، مبديا استغرابه من الذين يهاجمون تنظيمه لأنه لم يقم بتطبيق الحدود في مدينة المكلا التي قام بالسيطرة عليها، وأشار الوحيشي في محاضرته إلى أن بعض الجهاديين لا يرى في الشريعة إلا ما على الناس من الواجبات، دون أن يكون في حسبانه ما لهم من حقوق، وهذا جزء من الأخطاء الكثيرة التي وقعت فيها تجارب تطبيق الشريعة على حد قوله.
تنظيم القاعدة حينما سيطر على المكلا حرص على إنشاء مجلس إدارة مدنية من أهل المدينة تناغما مع اجتهاداته الجديدة. وهو عين ما قامت به جبهة النصرة (القاعدة في سوريا) بمعية فصائل جيش الفتح حينما سيطرت على مدينة إدلب. والإختيار الفقهي لجبهة النصرة في مسألة تطبيق الحدود ينص على إرجائها، وعدم تطبيقها في الحرب، وكتب علي العرجاني (أبو حسن الكويتي) المسؤول الشرعي في جبهة النصرة بحثا في ذلك.
كتبنا من قبل أن الأدبيات الجهادية بدأت تتطرق لمواضيع الفقه السياسي، وتحاول بلورة نظرية سياسية جهادية(4)، خصوصا بعد الإشكالات التي اعترضت التيار الجهادي في كثير من الساحات التي استطاع السيطرة على مدنها ومحافظاها، وكتبنا أن باكورة هذه المحاولات كانت مع أبي قتادة الفلسطيني في كتابه ” ثياب الخليفة” و آخرها ورقة لعبد الله بن محمد (شؤون استراتيجية) بعنوان : ” النظام السياسي في الإسلام” أكثر تفصيلا وإجرائية.
من ناحية العلاقة مع فرقاء الساحة ممن يتقاسمون مع القاعدة نفس الأهداف، تبدوا هذه الأخيرة أكثر مرونة في التعاطي مع جميع أشكال التحالف والتنسيق معهم، وأكثر انفتاحا مع المشاريع الإسلامية الأخرى، في تجاوز واضح للإشكالات التي تستدعيها مفاهيم مثل: “الموالاة” و “المظاهرة” التي فاقم سوء فهمها وتنزيلها من أزمة التيار الجهادي عموما. فمثلا مجلس شورى ثوار بنغازي يضم كيانات عسكرية مختلفة المشارب فإلى جانب أنصار الشريعة(القاعدة) هناك أيضا كتيبة 17 فبراير ، وهي جزء من قوات فجر ليبيا الداعمة لحكومة طرابلس، وفي سوريا يضم جيش الفتح إلى جانب جبهة النصرة (القاعدة) كل من فيلق الشام المرتبط بالإخوان المسلمين، وحركة أحرار الشام التي أعلنت وقوفها إلى جانب تركيا في حربها ضد تنظيم الدولة، ولم تلغ جبهة النصرة التحالف معهما بل أصدرت بيانا عبرت فيه عن رأيها في قضية التحالف مع تركيا، دون أن تلزم به أحدا ودون أن تربط المسألة بمفاهيم “الولاء والبراء” و “المظاهرة” وغيرها، فسلمت نقاط تمركزها في الريف الشمالي لحلب لغيرها من الفصائل بكل هدوء وسلاسة.
في اليمن اعترف القائد الميداني لأنصار الشريعة حمزة الزنجباري بأن تنظيم القاعدة ساهم بكثافة في فعاليات المقاومة الشعبية ضد التمدد الحوثي، وقال بأن قوات التنظيم منتشرة في كل الجبهات ضد جماعة الحوثي، وأن معسكرات أنصار الشريعة دربت آلاف من عناصر المقاومة الشعبية التي استطاعت تحرير عدد من المدن التي كانت قوات الحوثي مسيطرة عليها، ومفهوم جيدا أن القاعدة لم تستشعر الحرج أثناء مساهمتها في معارك المقاومة الشعبية، ولم تعتبره موالاة لحكومة للرئيس عبد ربه منصور هادي ولا التحالف العربي الذي يسعى لإعادة الشرعية، بل أدرجت المساهمة في إطار مساندة الشعب اليمني في حربه ضد عصابات تريد النيل منه كما قال حمزة الزنجباري.
الحضور الرمزي وزخم الصورة
عاودت المنتديات الجهادية نشاطها من جديد على شبكة الأنترنت، وارتفعت نسب المشاركات فيها، وباتت المؤسسات الإعلامية الموالية للقاعدة تضخ إصداراتها بكثافة، وسُجل حضور لا فت في الأيام الماضية للمؤسسة الجهادية العريقة ” السحاب” رغم التراجع الملحوظ من الناحية الفنية والحرفية للمواد التي تقوم ببثها، ربما بسبب استهداف كوادرها المتمرسة ذوو الخبرة، كما ظهرت مواد ومؤسسات إعلامية موازية لتلك التي تتحدث باسم تنظيم الدولة، فقد أصدرت جبهة النصرة مجلة ناطقة باللغة الإنجليزية باسم مجلة “الرسالة” منافسة لمجلة دابق، ومتفوقة عليها من ناحية الإخراج الفني، ونشرة أخرى باللغة العربية باسم “إيحاءات جهادية ” صادرة عن “مركز دعاة الجهاد” إضافة إلى مجلة ” انبعاث” التي تصدر عن مؤسسة السحاب.
من ليبيا تبث “مؤسسة الراية” التابعة لأنصار الشريعة إصدارات متقنة توثق لمعاركها مع قوات اللواء خليفة حفتر وآخرها إصدار ” دفع الصيال” الاحترافي، نفس الأداء سجل عند كل من الفرع الصومالي “حركة الشباب المجاهدين” التي أنتجت “مؤسسة الكتائب” التابعة لها عدد من الأفلام المرئية ذات الجودة العالية. وتشهد الشبكات الإجتماعية تصاعدا للمحتوى الدعائي المؤيد للقاعدة بفعل الحسابات التي يدعم أصحابها أطروحات القاعدة وتحضا بمئات آلاف من المتابعين.
أعتقد أن المرحلة القادمة ستكون حبلى بالأحداث والتطورات المثيرة، وواضح جدا أن قيادة القاعدة تراقب الأوضاع عن كتب، يدل على ذلك ردة فعلها السريعة على إعلان وفاة الملا عمر حيث بادر الظواهري خلال ساعات من الإعلان إلى تسجيل بيان التعزية وتجديد البيعة للملا أختر منصور، مع التشديد على ذكر بنود داخلة في عقد البيعة تعطي للقاعدة حرية الفعل والحركة، وتحول دون غل يدها في وقت لاحق، وقبل أختر منصور بيعة الظواهري، فطالبان في حاجة ماسة لتنظيم القاعدة لاسيما وخطر تنظيم الدولة قد داهم أفغانستان. ويرى في طالبان عدوه الأول.
ظهور حمزة بن أسامة بن لادن وتقديمه من طرف أيمن الظواهري بعبارات مثل ” الأسد بن الأسد” و “ليثا من مأسدة قاعدة الجهاد” خطوة بالغة الرمزية، فعندما يعتبر تنظيم الدولة الإسلامية نفسه الوريث الشرعي لأسامة بن لادن، والوصي على تنظيمه الذي انحرف به الظواهري، يخرج ابن أسامة بن لادن ليتحدث بعكس ذلك، ويرسل ما اعتبرها تحية خاصة إلى: ” صديق الوالد ورفيق دربه الشيخ الجليل الصابر الثابت المحتسب …الشيخ الأمير أيمن الظواهري حفظه الله من كل سوء ومكروه”. إذن القاعدة قررت المضي بعيدا في صراعها مع تنظيم الدولة وخصومها التقليديين، ولا يبدوا خيار حلها مطروحا في جدول أعمال قائدها أيمن الظواهري كما يتحدث عن ذلك البعض، على الأقل في المدى المنظور. بقدر ما هو مطروح خيار تأهيلها سياسيا وتنظيميا للعب أدوار أكثر في عديد الساحات التي تتواجد بها ربما بأسماء مختلفة و أجندة مغايرة لكن ولائها لن يحيد عمن تعتبره “حكيما للأمة”.
هوامش
(1) جماعة المرابطين..رهان القاعدة في مصر http://www.islamrevo.com/2015/07/blog-post.html
(2) الخبر نشره صالح حماة (أس الصراع في الشام) https://twitter.com/Sera3_alsham/status/632144052700512256
(3) ورد في كلمة حمزة بن أسامة بن لادن أن نائب أيمن الظواهري هو ناصر الوحيشي
(4) تحولات الخطاب الجهادي http://www.islamrevo.com/2015/05/blog-post_11.html