عبد الغني مزوز—
فاجأ أبو محمد الجولاني المسؤول العام لجبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة، فرقاء الثورة في سوريا وأنصار الحركة الجهادية العالمية عندما أعلن فك ارتباط جماعته بالقاعدة، وتشكيل جسم جهادي جديد يحمل اسم “ جبهة فتح الشام “، وضاعف من حجم المفاجأة ظهور الجولاني كاشفا عن وجهه لأول مرة ضمن مشهد متقن حافل بالدلالات.
سرت شائعات قبل الإعلان المفاجأ تحدثت عن نية جبهة النصرة إنهاء ارتباطها بتنظيم القاعدة، وكان الحديث المتداول غير خارج عن نطاق الشائعات المعتادة عن جبهة النصرة، إذ من المعروف أن شخصيات في موقع التواصل الاجتماعي تكاد تكون متفرغة لهذه المهمة، غير أن تلميح الشيخ المقدسي إلى المسألة عبر حسابه الشخصي على تويتر، قطع حبال الشائعات وفرض نوعا من الجدية حول الموضوع، حيث لا يعني ذلك سوى أن قضية فك الارتباط قد دخلت فعلا حيز النقاش والتداول داخل دوائر صنع القرار الجهادي.
قبل الإعلان بأربعة أيام تعززت الأخبار حول الموضوع، وتداول مؤيدون لجبهة النصرة الاسم الجديد لجماعتهم، وسُربت صورة للراية الجديدة التي تم التوافق عليها بين أعضاء مجلس شورى النصرة، غير أن أحدا لم يتحدث عن ظهور علني للجولاني لأن تحركات الرجل تُحاط بأقصى درجات السرية ولا يدري بها سوى قلة قليلة من أقرب المقربين، وهي إجراءات عادية بالنسبة لشخصية مطلوبة لأكثر أجهزة الاستخبارات تطورا في العالم. قبل الإعلان بساعات نشرت مؤسسة المنارة البيضاء الذراع الإعلامي لجهة النصرة كلمة صوتية لأحمد حسن أبو الخير النائب العام لأيمن الظواهري وجه فيها ” قيادة جبهة النصرة إلى المضي قدما بما يحفظ مصلحة الإسلام والمسلمين ويحمي جهاد أهل الشام (ويحثهم) على اتخاذ الخطوات المناسبة اتجاه هذا الأمر” و هو ما اعتبر إذنا من قيادة القاعدة لجبهة النصرة بإعلان فك الارتباط بها، كما أنه بمثابة رسالة طمأنة إلى أنصار التيار الجهادي ونشطائه؛ أن الخطوة المزمعة حصلت بتوافق ورضا بين قيادتي القاعدة وجبهة النصرة، وبَثُ كلمة أبو الخير عبر مؤسسة إعلامية تابعة للنصرة وليس عبر مؤسسة السحاب التابعة للقاعدة هو لمزيد من التأكيد أن الخطوة حظيت بمباركة القاعدة، وليس كما حصل عندما أعلن البغدادي عن دولة العراق والشام الإسلامية حيث ظهر الإعلان آنذاك مخالفا للسياسة الإعلامية المتبعة من حيث ضرورة صدور أي مادة إعلامية عبر مركز الفجر للإعلام حصرا.
لا شك أن الجولاني لم يكن ضمن برنامجه -على الأقل في المدى القريب- أن يعلن فك ارتباطه بالقاعدة، ولم يكن مطروحا في أجندة صناع القرار الجهادي هذا الموضوع، بدليل أن أيمن الظواهري قبل فترة قصيرة تحدث عن ارتباط النصرة بالقاعدة معبرا عن اعتزازه بهذه العلاقة، رابطا انتفائها بقيام حكومة إسلامية راشدة، مشددا على أن القاعدة لن تكون عائقا أمام أي مشروع وحدوي يفضي إلى إقامة نظام إسلامي في سوريا. لكن تطورات الوضع في سوريا عجلت بطرح الموضع على طاولة النقاش والدراسة، فمن المعروف أن الجولاني تعرض مند إعلانه البيعة للدكتور لأيمن الظواهري لجملة من الضغوطات لم تفتر على امتداد السنوات التي تلت البيعة، وحاولت جهات كثيرة ثنيه عنها لكن دون جدوى، كما لم يستجب لأي شكل من أشكال الإغراء التي عرضت عليه مقابل تخليه عن مظلة القاعدة، وكان موقفه في غاية الصلابة يؤيده عليه مجموعة من صقور مجلس شورى النصرة وشرعيوها، وهو الموقف ذاته للقادة العسكرين فيها وعامة أفرادها، إذ لو لم يكن رأيهم كذلك لانحازوا إلى فصائل أخرى دون صعوبات تُذكر.
كان لسياسة الأرض المحروقة والإبادات البشعة التي تعرضت لها مدن سورية محررة، بذريعة وجود جبهة النصرة فيها، السبب الجوهري في إقدام الجولاني على فك ارتباطه بالقاعدة، وتغيير اسم جماعته. طبعا ليس لأن القصف الهمجي سيتوقف أو ستَخف وتيرته، لكن لأن الجولاني لا يريد أن تقترن مأساة الأهالي و المدنيين السوريين به أو بجماعته بأي وجه كان. لقد حرصت جبهة النصرة خلال السنوات الماضية أن لا يرتبط اسمها سوى بالانتصارات الكبيرة التي تحققها الثورة، وبعمليات فتح المدن، وقهر الحواجز العسكرية المرعبة، و بعمليات تحرير الأسرى و المعتقلين، وبالجهود الإغاثة التي تلبي جزء من حاجات الناس، والسهر على أمنهم من خلال القضاء على المجموعة الإجرامية التي تعترض سبيلهم وتسلبهم أموالهم، هكذا كان تمثل الأهالي لجبهة النصرة؛ فصيل ثوري يحمل همهم أكثر منهم كما عبر عن ذلك هادي العبد الله ذات يوم، وبالتالي لم يكن غريبا أن تكون من أكبر الفصائل الثورية على الساحة وأكثرها تأثيرا وفاعلية، حتى وهي لا تتلقى مليما واحدا من الدعم الخارجي.
لقد كان العمق الشعبي رقما مهما في معادلة النجاح الذي حققته جبهة النصرة على الساحة السورية. فلا يكاد يُجرى استطلاع للرأي حول موضوع على علاقة بالنصرة إلا وتكون النتيجة في صالحها، حتى ولو كان الاستطلاع متحيزا، أو تشرف عليه جهات على خصومة سافرة مع النصرة، أو تكون العينة العشوائية المستهدفة غالبها من المعارضين لها، كالاستطلاعات التي تجريها معرفات على حسابات بمواقع التواصل الاجتماعي معروفة بعدائها الشديد لجبهة النصرة.
الثابت قطعا ويقينا أن الجولاني تعرض لعملية ابتزاز قذرة من “المجتمع الدولي”، كالتي تقف خلفها عصابات المافيا و الجريمة المنظمة، فقد خُير بين التنازل عن مواقفه، أو إبادة الأهالي وتسوية المدن بالأرض، وتلك كانت نقطة ضعف الجولاني التي أجاد المجتمع الدولي اللعب عليها، ولم يملك معها قائد جبهة النصرة غير التنازل عن موقفه من البيعة للقاعدة، بل وأضاف لذلك تغيير اسم جماعته والظهور بوجه مكشوف، مع ما تنطوي عليه كل هذه الخطوات من مخاطر على الجماعة من ناحية التفكك و الفوضى و الارتباك، لكن منطق تغليب المصلحة العامة على مصلحة التنظيم والجماعة لم يدع مجالا لكثير من الأخذ والرد، كما أن العبارة التي نحتها الجولاني واتخذها لنفسه شعارا ” لأهل الوفاء يهون العطاء ” لم تدع له هامشا آخر من الخيارات سوى تلك التي تكون في مصلحة الشعب و ثورته، ومصلحة الشعب الآن وهو يعاني تحت حمم الطائرات الروسية والأمريكية هي بتفويت الفرصة على من يتخذون جبهة النصرة مبررا لقتل الناس و إبادتهم، حتى والجميع على يقين أن ذلك لن يحدث فارقا، إذ لا تُستهدف جبهة النصرة لأنها تشكل خطرا على الغرب كما أشاعوا، بل لإسلاميتها وفاعليتها الثورية وتغلغلها داخل نسيج المجتمع السوري.
نقطة في غاية الأهمية ربما لم يلتفت إليها إلا القليلون في موضوع استهداف جبهة النصرة، حيث يعتقد البعض أن سياسة العقاب الجماعي التي تتعرض لها حواضن النصرة الاجتماعية، ومعسكراتها ومقراتها، هدفه النيل منها كتنظيم و هذا غير صحيح، الحرب على النصرة ليست حربا على تنظيم وإلا ما أهون التنظيم وما أسهل النيل منه مهما بلغت قوته وانتشاره. إن الحرب ضد النصرة هي حرب ضد فكرة جبهة النصرة ليس كبنية تنظيمية بل كنزعة ثورية ذات حمولة إسلامية شرعية، وهي من أخطر الأفكار التي تهدد استقرار المنظومة الإمبريالية الدولية القائمة على سلب حرية الشعوب ونهب مقدراتها، إنها استجابة ندية للعولمة و الرأسمالية المتعطشة لسفك الدماء واستعباد الأمم وفرض الوصاية عليها. ولا شك أن هذه المنظومة لا تريد لفكرة ثورية مؤسسة على نصوص الوحي، أن تحيا وتترسخ في وجدان الناس ووعيهم، خصوصا وهذه الفكرة ترفض القرارات الدولية ولا يبدو أن مصالح الكبار ستنتعش على أي مساحة تمتد إليها، فجبهة النصرة مثلا كتنظيم وكفكرة رفضت تمرير عدد من التوافقات الأممية المشبوهة وتصدت لها بكل حزم وقوة، كالهدن و المفاوضات وتقسيم السلطة، وشكل نظام الحكم وغيرها..
هذه الفكرة التي سرت في جسد الثورة السورية هي التي لا يريد لها الغرب أن تتمتع بمزيد من القوة والانتشار، إنها فكرة ممانعة لجميع أشكال التدخل الغربي في شؤون الثورة، والأخطر أن هذه الفكرة فعلا قد بلغ انتشارها مدى لا يمكن الاستهانة به. ولا يمكن حصارها إلا بإنهاك الجسد الذي تسري بداخله، ومن هنا كانت ضرورة انتهاج أسلوب الأرض المحروقة، لأن جبهة النصرة ليست تنظيما يتخذ لنفسه مقرا في الحارة الفلانية، جبهة النصرة فكرة تغلغلت داخل النسيج الاجتماعي السوري، جبهة النصرة تستوطن وعي الناس الجمعي، لأنها أبلغ تعبير عن رفض الكيد الدولي والتواطؤ الدولي مع إجرام بشار وإيران. ليس غريبا عندما يتحدث الأطفال و الشباب والشيوخ أمام الكاميرا أن تلمس في فحوى كلامهم اقتباسات وشذرات من ” الخطاب الجهادي” الذي تتبناه النصرة، إنها مرحلة جد متقدمة في مسار تشييد بنية اجتماعية جهادية مقاومة، قد تختفي معها مبررات وجود التنظيمات والفصائل، حيث سينهض المجتمع بنفسه بأعباء الدفاع عن نفسه و أرضه وهويته. وقد تمت الإشارة إلى هذه النقطة في حيثيات الانفصال بين النصرة والقاعدة في كلمة أحمد حسن أبو الخير عندما تحدث عن “انتشار الجهاد ودخوله للمجتمع المسلم وانتقاله من مفهوم جهاد النخبة إلى مفهوم جهاد الأمة”.
وبما أن القضية قضية فكرة، يرفدها عمق شعبي وحواضن اجتماعية، فالمشكلة إذن بالنسبة للغرب مشكلة مشتركة بين الفكرة و أبعادها الاجتماعية، أو بين الفكرة والامتداد. والفكرة إذا تحققت على صورة نظام سياسي يعمد الغرب إلى إسقاطه و الانقلاب عليه، وإن تحققت في شخصية سياسية يدبرون عملية لاغتيال شخصه أو شخصيته، لكن ماذا لو تحققت الفكرة في صورة وعي اجتماعي أخفقت في النيل منه كافة أدوات الشيطنة والدعاية، ما العمل في هذه الحالة؟ طبعا هناك خيارين يقعان في صميم بنية النموذج الحضاري الغربي هما: “الترانسفير و الحل الأخير” والحضارة الغربية كنزعة مناقضة للأخلاق ومتجاوزة للقيمة، لا ترى بأسا في تهجير شعب إذا اقتضت الضرورة ذلك، أو إبادته و إفناء وجوده من على ظهر البسيطة ” كحل أخير” إن كان ذلك أوفر للوقت والجهد وأدعى للجودة والمردودية، ولم تكن أفران هتلر وقنبلة هيروشيما وتهجير الفلسطينيين سوى تجلي من تجليات التدبير الرشيد والعقلاني “للمشاكل” التي اعترضت الحضارة الغربية. وإبادة السوريين وتهجيرهم توسل طبيعي من الرجل الأبيض بما تتيحه حضارته وحداثته من أدوات تدبير الأزمات وحل المسائل. وبالتالي إفناء المدن السورية المحررة هو بمثابة حل أخير، يستهدف فكرة التحرر والثورة من خلال ضرب حواضنها الشعبية؛ تهجيرا وإبادة.
لقد كان تفاعل المجتمع الدولي مع إعلان الجولاني فك ارتباط جماعته بالقاعدة سريعا، فقد أعلنت الإدارة الأمريكية و الأمم المتحدة، أن جبهة النصرة بمسماها (جبهة فتح الشام ) الجديد ستظل على لوائح الإرهاب وقوائم الاستهداف، وإن قطعت علاقتها بالقاعدة، وهو ما لم يكن غريبا على الإطلاق حيث أُدرجت النصرة على لوائح الإرهاب حتى قبل إعلانها الولاء للقاعدة. والتصريحات الغربية بعد إعلان جبهة فتح الشام جاءت متناغمة مع الإرادة الدولية المسبقة التي ترى في أي فكرة أو كيان رافض للوصاية الغربية خطرا يجب التعامل معه بحزم وجدية.
الجولاني فعل ما ينبغي عليه أن يفعله، بشجاعة ومسؤولية، و هو يُدرك جيدا أن خطوته لن تُحدث فرقا فيما يتعلق بشراهة القتل والتدمير التي وقعت المدن المحررة ضحية لها، لكنه أراد أن يؤكد بالوقائع الملموسة ما صرح به أكثر من مرة، وهو أن الغرب لا يريد رأس القاعدة أو جبهة النصرة بل يريد رأس الثورة الروسية، والنصرة مستهدفة لأنها اليد الضاربة للثورة. لقد تخلت جبهة النصرة عن اسمها وقيادتها العليا، نزولا عند مصلحة الشعب الذي يكابد الموت والدمار، ومشكلة النصرة هي مشكلة كافة الكيانات ذات النزعة الأخلاقية، التي لا تبرر الغاية عندها الوسيلة.
ما لا يدركه خصوم النصرة، أنها خرجت من امتحان الولاء للشعب والأمة بنجاح باهر، ومكاسب التحول الجديد و ايجابياته أكبر من أن تُحصى، لقد حظيت خطوة الجولاني بمباركة كافة شرفاء الثورة وفصائلها، وأنصار التيار الجهادي وشيوخه. وظهور الفاتح الجولاني بوجه مكشوف خلق حالة من المشاعر الوجدانية الجياشة عبرت عنها الآلاف من المشاركات عبر مواقع التواصل الاجتماعي المفعمة برسائل الود و الولاء له والثقة في رؤيته القيادية، وقراره الثوري والجهادي.