عبد الغني مزوز—
قبل فترة من الزمن قررت دراسة الإنتاج الفكري للمفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي، فقرأت له وعنه كثيرا، غير أن ما استوقفني وأثار في ذهني عواصف من الأسئلة والإشكالات كان كتابه المهم ” مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”، بما هو أطروحة مكثفة في النهضة واليقظة قدم فيه بن نبي تصوره للنهوض والإقلاع الحضاري للعالم الإسلامي، حيث اعتبر أن جوهر أزمة مجتمع ما قبل التحضر كامنة في افتقاره إلى الأفكار لا إلى الوسائل، وأن الإسلام جاء ليبني عالمه الثقافي الذي تتمحور فيه الأشياء حول الأفكار، كما عزى الانكفاء الحضاري الذي اعترى الأمة -بعد عصر الموحدين- بتجمد الفكرة وفقدانها لألقها ومن ثم استعادة الأشياء سلطتها على الوعي والعقول من جديد، ليعود العالم الإسلام أدراجه إلى ما قبل مرحلة الحضارة، بعد أن تردى بشخوصه وأشياءه وأفكاره في منحدر الغريزة، كمحطة أخيرة في مسار الحضارة كما رسمه بن نبي.
وأنا أتأمل فعاليات الربيع العربي هالني حجم الفعل الثوري وزخمه وتصاعده، بنفس الدرجة التي هالني فيها افتقار هذا الفعل إلى بنية تحتية فكرية يقوم عليه، وتكون له بمثابة الإسناد الأيديولوجي وصمام الأمان في دروب الصراع الذي قد يمتد لأجيال، وحتى لو نال الطغيان أو الثورات المضادة منه في جولة، فإن إمكانية استئناف فعالياته ستظل قائمة، وخموده في ناحية لا يعني إقباره والقضاء عليه بالمرة، فالأفكار لا تموت مهما اعترى حملتها من تعب ويأس، فلا تلبث أن تينع وتورق في أمة من الناس من جديد، يصلون بها ما انقطع من “قومتهم”، ويُقومون بها ما تضعضع من ثورتهم. وفي حالة الثورة العربية يكون حضور الأفكار أمرا حيويا وهاجسا وجوديا؛ لا مستقبل للفعل الثوري دونها في ظل فوضى الأفكار والأيديولوجيات المضادة التي تريد أن تمنع الحس الثورة من الظهور والانتشار والسيادة بشتى الوسائل والسبل.
انطلاقا من محورية الأفكار في النموذج الحضاري الإسلامي كما قدمه بن نبي، ونُذرتها في راهن الفضاء الثوري الإسلامي، استشعرت مدى فداحة مأزق اللحظة الثورية العربية، وبالتالي مسيس حاجتها إلى من يوجه الفكر والنظر إلى هذا المنحى؛ من حيث ضرورة إرفاد الفعل الثوري المتصاعد بأفكار ناظمة توجهه وترشده. ولعل ما ينبغي التأكيد عليه أن المطلوب ليس نحث أفكار ثورية لا وجود لها في الحقل التداولي الإسلامي، بل مجرد اكتشاف لها، وإعادة استدعائها إلى مضمار الصراع من جديد، ونفض ما تراكم عليها من غبار التأويل والتحريف.
لا شك أن أشد ما يثير الاستغراب هي تلك النداءات التي تخرج من حين لآخر حول أهمية فصل الفعل الثوري عن الأيديولوجيا ضمانا لوحدته واستمراريته. إن تحرير الفعل الثوري من دوافعه الأيديولوجية لا يعني سوى نزع القصدية عنه، ليصير ضربا من ضروب العبث، وسلسلة من الأفعال الخالية من أي معنى سوى من منزعها الغريزي البدائي.
حاولت كتابة مقال بغرض إثارة الموضوع، وقمت بجمع بعض الشذرات من كتابات بن نبي ومفكرين آخرين، وأنا بصدد بصدد جمع مادة المقال أتفاجأ أن الدكتور محمد بن المختار الشنقيطي أستاذ الأخلاق السياسية ومقارنة الأديان نشر مقالا على موقع الجزيرة بعنوان ” حداء الثورة وصخب الثورة المضادة ” وأشار فيه الدكتور إشارات واضحة إلى محورية الشرارة الفكرية بالنسبة للفعل الثوري على صعيد ” النفثة الأخلاقية والطاقة المتجددة ” التي تمده بها و أيضا على صعيد صيانة ” الثورة في رحلتها التي لا تخلو أبدا من عوائق ومزالق، لتضمن حسن تسديدها حتى تصل إلى غايتها، وهي تحرير إرادة الشعوب، والبرهنة على رشدها وأهليتها للإمساك بمصائرها، دون وصاية من سلطة استبدادية، أو نخبة أنانية”. مسترشدا في ذلك بتجارب الأمم وثوراتها ضد الظلم والاستعباد. لم يكون مقال الشنقيطي الأول في سياق ترشيد الفعل الثوري الجهادي، بل كتب عدة مقالات حظيت بقبول لافت من القراء العرب، بعضها بدأه على شكل وسوم على موقع تويتر قدم من خلالها رؤيته التصحيحية لراهن الربيع العربي بحالتيه الجهادية والمدنية.
عاد المفكر محمد بن المختار الشنقيطي مع افتتاح موقع مدونات الجزيرة ويستأنف القول مجددا في موضوع الأفكار والثورة، ليقدم مقالا بعنوان ” أروراق الربيع (1).. الثورة والشرارة الفكرية” وفيه يطرح الشنقيطي مسألة الأفكار والثورة بمزيد تفصيل وتأصيل مستحضرا تجارب الثورة الفرنسية والإنجليزية والأمريكية، مبديا أسفه في نهاية المقال لأنه ” لا يوجد في تراثنا فكرٌ لصناعة الثورات، وإنما فقهٌ للتحذير من الفتن. ولذلك يتعين على أهل الرأي والقلم اليوم أن يسدُّوا هذه الثغرة، وينيروا الدرب للسائرين على درب العدل والحرية”. والاستدراك الذي أريد أن أبديه على ما تفضل به الدكتور الشنقيطي يدور حول وجاهة القول أن تراثنا خالي من فكر صانع للثورات.
لا يخفى على الدكتور وهو الضليع في الفقه السياسي ومن نسل أحد عباقرة شنقيط، أن الإسلام في أصله فكرة ثورية على الخرافة والظلم والطغيان، وكلمة الشهادة التي هي عنوان الإسلام ومستهل دخوله، لا تعني سوى تحرير الإنسان من كل أشكال الاستعباد وتجريد غير الله من خصائص الألوهية والربوبية. والتاريخ الإسلامي حافل بنماذج التمرد ورفض الظلم ورد الطغيان، وإن كان يُصطلح على ذلك أحيانا ” بالخروج”، فقد خرج الحسين بن علي على نظام يزيد، وبعده عبد الله بن الزبير، وخرج جمهرة من المثقفين (القراء) بقيادة عبد الرحمن بن الأشعت على الحجاج بن يوسف وغيرهم كثير من الثوار والحركات الثورية التي ظهرت على امتداد التاريخ الإسلامي.
إن مهمة الكتاب والمؤرخين والمفكرين هي تحرير تراثنا من جناية التأويل المنحاز لأنظمة الجور والطغيان، وقد بدلت في هذا المسعى مجهودات تستحق الإشادة. حتى بن تيمية العالم والفيلسوف الثائر ظل تراثه نهبا لفقهاء السلاطين، إذ لا يكاد يخرج لهم كتاب يمجدون فيه سلطانا أو طاغية إلا ويتعسفون في إقحام التراث التيمي بين ثناياه. وقد قام الدكتور حاكم المطيري مشكورا بإعادة قراءة سيرة وفكر بن تيمية فأعاد إليه ألقه ونزعته الثورية التحررية في سلسلة مقالات بعنوان ” بن تيمية ومعركة الحرية “.
يقول المؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي : ” إن المعجزات الكبرى في التاريخ مرتبطة بالأفكار الدافعة والأيديولوجيات الجامعة”، ومن هذا المنطلق يتحتم على رواد الفكر والعمل الإسلامي المعاصر -ولا شك أن الشنقيطي من بينهم- المبادرة إلى إعادة استدعاء الفكر الإسلامي الثوري إلى ميدان الصراع والمراغمة بين الأمة ومن يريد مصادرة حقوقها في التحرر والإنعتاق.
” طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” للكواكبي، معالم في الطريق ” لسيد قطب، ” الحرية أو الطوفان ” لحاكم المطيري، ” شروط النهضة ” لمالك بن نبي، ” المنهاج النبوي” لعبد السلام ياسين، ” جند الله” لسعيد حوى، ” دعوة المقاومة الإسلامية” لعمر عبد الحكيم..هذه الكتابات وغيرها الكثير استطاعت بلورة نظريات في التغيير والثورة والحكم الرشيد، لكن الحزبية و الإصطفافات الثورية لم تدعا مجالا لاستيعابها وتوظيفها لصالح انتفاضات الشعوب. ألا يقوم مثلا كتاب ” الحرية أو الطوفان” في الثورة العربية مقام ” في العقد الاجتماعي” في الثورة الفرنسية.