عبد الغني مزوز—
لا يفتأ العقل الثوري الجهادي يحاول تدبير صراعه مع النظام الدولي ومؤسساته الوظيفية الرديفة من أنظمة عسكرية وأحزاب ومنظمات طائفية وغيرها، عبر ابتكار أساليب مختلفة في المواجهة تتوخى النجاعة والفاعلية وتنأى عن الارتجال والعاطفة، فهو وإن حسم منذ زمن في اعتماده الخيار المسلح سبيلا للتغير حتى قبل عسكرة الثورات بعقود إلا أنه مشغول بمدى موائمة هذا الخيار لمختلف محطات ولحظات المواجهة التي ينخرط فيها، لقد وعت النخب الجهادية أن استعمال البندقية بذكاء لا يقل أهمية عن استعمالها بإخلاص.
تندرج فكرة الإدارة المدنية للمناطق المحررة ضمن مقاربة جهادية جديدة، بدأت في أزواد بشمال مالي خلال سيطرة الجماعات الجهادية عليه، وطبقها تنظيم القاعدة في مدينة المكلا اليمنية، واعتمدها الجهاديون والثوار في بنغازي وبدرجة أكبر في درنة بليبيا، ثم أخيرا دعت إليها هيئة تحرير الشام مع سيطرتها على معظم الشمال الغربي لسوريا. جوهر المقاربة يتمثل في تكليف مكونات المجتمع ومؤسساته الأهلية بمهمة إدارة الشأن العام بينما يتفرغ المقاتلون والقادة العسكريون للجبهات وخطوط الرباط، فالقوى الثورية تكتفي بوضع الخطوط العريضة للإدارة وتشرف على ملفاتها الكبرى وقراراتها السيادية، والمجالس الأهلية تدير شؤون المجتمع بالطريقة التي تراها مناسبة متحررة في ذلك من المحاصصة الفصائلية وإكراهاتها. والفكرة في صميمها هي مراجعة شبه جذرية لأطروحة “إدارة التوحش” التي صاغها أبو بكر ناجي في كتابه ” إدارة التوحش.. أخطر مرحلة ستمر بها الأمة”.
إن فكرة الإدارة المدنية للمناطق المحررة التي دعت إليها هيئة تحرير الشام عبارة عن مقاربة إجرائية لتدبير الصراع والمواجهة وليست نمطا من السلطة ولا فلسفة في الحكم، فتأمين حاجيات الناس الأساسية وإشراكهم في تحمل الأعباء والمسؤوليات المرتبطة بشؤونهم المعاشية والخدمية يعني تفويت فرصة تأليبهم على قوى الثورة عبر اللعب –كما هو معتاد – على وتر سوء الإدارة وشح الموارد وتدني جودة الخدمات، وهو في النهاية انتصار على خصوم الثورة وحرمان للثورة المضادة من أهم العوامل التي تروج به لنفسها وتحشد به الناس خلفها. ورغم سوابق التجربة والتطمينات التي قدمها قادة الهيئة إلا أن بعض الجهاديين يبدون توجسهم من مشروع الإدارة المدنية، ويعتبرونه تفريطا في “حاكمية الشريعة” وتقاربا مع العلمانيين، وهي نفس الملاحظات التي نشرها كتاب جهاديون في المنتديات الحوارية حول ” وثيقة توجيهات عامة بخصوص المشروع الإسلامي الجهادي في أزواد” المعروفة اختصارا بـ”وثيقة أزواد” وهي عبارة عن مقترحات وتوصيات تقدم بها أبو مصعب عبد الودود قائد تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي للجماعات الجهادية التي سيطرت على شمال مالي في 20/07/2012، وكانت الوثيقة بمثابة نقلة نوعية في طريقة تفكير العقل الجهادي وقراءته للصراع والمواجهة، الملاحظات والتعقيبات المتحفظة على مضمون وثيقة أزواد رد عليها تنظيم القاعدة واستنكر اتهامه بالانحراف والتحالف مع العلمانيين في بيان أصدره في 22/04/2015.
لا شك أن فكرة الإدارة المدنية للمناطق المحررة في سوريا تنطوي على فهم عميق لمنطق اشتغال الثورات المضادة، فوضع ملف الخدمات و إدارة شؤون المجتمع في أيدي الناس عبر ممثليهم من المجالس الأهلية والمؤسسات المدنية إجراء يضع الثورة المضادة في مواجهة الشعب وقواه الحية، فالثورة المضادة اعتادت ابتزاز الشعوب في أقواتها لتأليبها على الثورة وحشدهم ضدها سواء انتظم هؤلاء الثوار في فصائل وجماعات أو تبوءوا سدة الحكم والسلطة، كما حدث في مصر خلال فترة حكم الرئيس محمد مرسي عندما خرج الملايين بسبب غلاء الأسعار وانقطاع الكهرباء وتأخر الرواتب.. وكلها أزمات مقصودة ومخطط لها سابقا من قبل رجال أعمال النظام السابق وخصوم الإخوان المسلمين في الخارج. وهناك أيضا فكرة جديرة بالتأمل وهي أن الثورة تركز على القضايا الكبرى والأفكار المؤسسة بينما الثورة المضادة تركز على الأمور الجزئية والتفاصيل الصغيرة، فإذا كانت الثورة تسعى لبعث وإحياء مفاهيم الهوية والحرية والسيادة والاستقلال وتركز عليها في خطابها، فالثورة المضادة تركز على غلاء أسعار المحروقات وانقطاع الكهرباء والحوادث الأمنية وإن كانت محدودة، فتملأ بها صفحات الجرائد ومواقع الانترنت ونشرات الأخبار، وعبر هذا التناول المغرض لأمور الناس المعاشية تضع قوى الثورة المضادة نفسها في موقع المخلص بينما تحشر الثورة ورموزها في زاوية النبذ والإدانة. وبالتالي فتمكين الأهالي من إدارة شؤونهم يعني وضع الثورة المضادة في موقع المواجهة المباشرة معهم.
يُدرك الثوار في سوريا وفي مقدمتهم هيئة تحرير الشام حجم التحديات التي تعترض مسار الثورة، ويدكون أيضا أن المواجهة قادمة بعد فراغ النظام وداعموه والتحالف الدولي من تنظيم الدولة في الرقة ودير الزور، لكنهم يفضلون أن تكون المواجهة على طريقتهم لا كما يريدها خصومهم، يريدون أن يشارك الجميع في مهمة الدفاع عن المناطق المحررة؛ المجالس الأهلية والكفاءات الإدارية تتولى تدبير شؤون المدن وتسيير الخدمات، والعسكريون يرابطون على التخوم ويقودون المعارك في تجلي فريد لتكافل مكونات المجتمع والثورة ووحدة الهدف والمصير.
وكما هو متوقع فقد عارضت بعض الأصوات مبادرة الإدارة المدنية للمناطق المحررة، ومنها أصوات جهادية لم تستوعب أن المبادرة عبارة عن حزمة من الإجراءات الإدارية وليست نظاما للحكم، مع أن الاستقلال والحيوية والفاعلية من السمات التي ميزت المجتمع المدني الإسلامي عبر التاريخ ولم يفقد هذه السمات إلا بعد نشوء الدولة الوطنية الحديثة بُعيد الاستعمار. لقد أكد أبو مصعب عبد الودود في وثيقة أزواد وهو يقترح صياغة دستور إسلامي توافقي بين مكونات المجتمع الأزوادي من قبائل متعددة الأعراق و فصائل مسلحة مختلفة المرجعيات وتوزيع الوزارات بين هذه المكونات وإقامة مجلس حكم انتقالي؛ أكد وهو يضع هذه المقترحات أنه: ” لا ينبغي المبالغة والمجازفة والنظر إلى المشروع على أنه دولة إسلامية مستقرة لأن ذلك سابق لأوانه” واعتبر إدارة إقليم أزواد أمام التحدي الإقليمي والدولي مهمة تفوق قدراتهم العسكرية والتنظيمية والمالية والإدارية وبالتالي فمن الحكمة أن لا يتحملوا العبء لوحدهم في هذه المرحلة بل ” نشرك في ذلك كافة الأطراف الفاعلة وكل مكونات الشعب” وتوقع عبد الودود أن يحدث تدخل خارجي مباشر أو غير مباشر أو حصار اقتصادي وتجويع وقطع للرواتب مما سيؤدي إلى تأليب الشعب عليهم ومن تم ضرورة إشراك كل مكونات المجتمع في مهمة إدارة شؤونهم، هذا التصور لمح إليه أيضا القائد السابق لتنظيم القاعدة في اليمن أبو بصير ناصر الوحيشي الذي أكد في محاضرة له بعنوان ” حول مفهوم تطبيق الشريعة” أنه : ” قد يكون من تطبيق الشريعة عدم تطبيق الشريعة” وذلك في سياق تصحيحه لبعض المفاهيم الخاطئة لدى الجماعات الجهادية وتطبيقها الحرفي للشريعة في كل بقعة تسيطر عليها.
إلى جانب بعض الأصوات الجهادية المتحفظة على المبادرة فقد رفضتها أيضا أصوات تزعم الوسطية والمدنية وطرحت في المقابل مبادرة موازية تروم جمع شتات “المعتدلين” إفشالا لمبادرة ” المتشددين” في تنفيذ حرفي – مقصود أو غير مقصود- لتوصيات مايكل راتني الذي حث الفصائل المعتدلة على التمايز عن المتطرفة تمهيدا لمحاربتها واستئصالها، ومع الأسف فكل ذلك القدر من الاعتدال والوسطية والمدنية لم يسعف أصحابه ليخرجوا بموقف واحد يُجنبون به أهلهم ويلات التدمير والتشريد.