يصعب فهم الواقع الصومالي منفصلاً عن خلفياته التاريخية، خاصة إذا تعلق الأمر بتطورات العمل الإسلامي فيه.. فالصومال هو القطر العربي الوحيد تقريبًا الذي خضع للاحتلال وجرى تمزيقه بين ثلاث قوى استعمارية كبرى هي (فرنسا، وبريطانيا وإيطاليا) والتي لم تكتف بدورها حتى شاركت جيرانه (كينيا وإثيوبيا) – اللاتي تحكمهما أنظمة تُخالفه في العقيدة – في هذا التمزيق، وتصدقت عليهما بأجزاء كبيرة من أراضيه فتوزعت أقاليمه إلى خمس جهات: (أوجادين أو الصومال الغربي لصالح إثيوبيا، وإنفدى لصالح كينيا، فضلا عن الصومال الفرنسي (جيبوتي)، والصومال الإيطالي، والصومال البريطاني) كل ذلك على الرغم من الوحدة النادرة التي يتمتع بها الصوماليون في اللغة والعقيدة والعرق والمذهب.
حدَث ذلك في الوقت الذي تأكد فيه لهذه القوى الاستعمارية استحالة بقائها فيه، فشرعت تقسم الصومال على الورق والخرائط دون مراعاة لسكانه وقبائله، ورسمت حدودًا سياسية وفق مصالحها، مفرقين بين القبيلة الواحدة عبر عدد من الحدود، حتى من استقل من أجزائه كجيبوتي وضعوا له شروطا تحول دون انضمامه مستقبلا إلى (الصومال الأم) بهدف بقاء هذا التمزيق مثار صراع مستمر بين الصوماليين وكل من إثيوبيا وكينيا وجيبوتي، وليكون بمثابة مسوغ يتيح للدول الغربية التدخل فيٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ منطقة القرن الأفريقي متى شاءت. ومنذ استقلال البلاد رسميًا عام 1960م تعيشُ الأجيال المتعاقبة من الصوماليين على أمل أن يتوحد كامل تراب وطنهم تحت راية واحدة، وربما على هذا الأساس أداروا الصراع في الداخل والخارج.
لم يكن الإسلاميون بمعزل عن هذا الصراع ولا ما تبقَّى له من رواسب التاريخ، كما لم يكونوا بمعزل عن التطورات الثقافية والاجتماعية الحاصلة من حولهم، ولعل (الصحوة الإسلامية) التي عمَّت أرجاء العالمَين العربي والإسلامي منذ سقوط الخلافة العثمانية على يد كمال أتاتورك عام 1924 لم تستثن الإسلاميين من أبناء هذا البلد العربي الأفريقي، بل وصلت إليهم مبكرا منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي، على الرغم من خصوصية الأوضاع في الصومال والبيئة المعقدة.
صاحَبَ هذه الصحوة تيارات فكرية متقاربة في كثير من أصولها ومناهجها، ومتفاوتة أحيانا في وسائلها، وتمثل لها رافدان أساسيان: حركة الإخوان المسلمين في مصر والتيار السلفي في الجزيرة العربية، الذي وفِد يبحث عن موطئ قدم له في هذه البلاد التي كانت مرتعا لكلٍّ من الطرق الصوفية والشيوعية الماركسية في آن واحد. وقد ظهرت بوادره الأولى على يد عدد من الشيوخ وطلاب العلم الذين رحلوا إلى السعودية والكويت والإمارات ومصر، إلى جانب البعثات الدعوية والتعليمية والإغاثية التي أرسلها كل من الأزهر ورابطة العالم الإسلامي.
البدايات السلفية في الصومال
نشأت السلفية في الصومال إحيائية دعوية، في بداياتها، لتصحيح العقيدة، ولتجديد قضايا الدين في نفوس المسلمين، وأيضا كردة فعل لمواجهة الإرساليات التنصيرية، إلى أن انتقلت في مرحلة متأخرة من هذه الفترة إلى الحالة الحركية التنظيمية ثم المسلحة فيما بعد. وكان أول من أدخل المنهج السلفي إلى الصومال (الشيخ نور الدين علي علو) الذي وصل إلى البلاد في الخمسينيات من القرن الماضي قادماً من مصر، بعد تخرجه من الأزهر الشريف، وكان متأثراً بدعوة (أنصار السنة المحمدية)، فنزل في أول الأمر بمدينة (جالكعيو) التي كانت معقلاً للطريقة (الزيلعية) الصوفية (أحد فروع القادرية)، والتي واجهت وجود الشيخ داخل معقلها، مما أجبره على التوجّه إلى العاصمة مقديشو، وهناك بدأ حلقات التدريس في بعض مساجدها إلى أن رجع إلى مصر مرة ثانية بضغوط من السلطات الإيطالية ولإكمال دراسته. ومنذ وصول الشيخ نور الدين إلى الصومال حتى أواخر الستينيات من القرن الماضي وحتى عام 1967م حيث تولى القضاء في الحكومة المدنية؛ كانت السلفية وغيرها من التيارات الفكرية الإسلامية على الساحة لم تتطور بعد إلى مستوى التنظيم.[2]
وإلى جانب جهود الشيخ علو يأتي دور(الشيخ محمد نور قوى) وهو أحد الذين نشروا الدعوة السلفية في هذه البلاد، وكان قد درس الفقه الشافعي ثم اللغة العربية وعلوم الحديث في إثيوبيا، ثم رحل لطلب العلم إلى مصر عام 1950م حيث التحق بجامعة الأزهر، وبعد انتهاء دراسته عاد إلى الصومال ضمن بعثة من الأزهر، ظل الشيخ نور مقيما في الصومال حتى العام 1999م، وكانت له حلقة في مسجده في “بيحانِ” من أحياء مقديشو، يُدرِّس فيها الأمهات الستة، كما كان يُلقي في هذا المسجد خطبة الجمعة وكان يرتاده طلبة العلم من سائر أحياء المدينة[3]، إلى أن انتقل الشيخ إلى الإمارات. ومن تلامذته: الشيخ محمود نور”البخاري”، والشيخ حسن حبيب، والشيخ محمد أحمد “بقلصون”، والشيخ عبدالقادر (جعمى) والشيخ محمد حسن عمّي، والشيخ حسن طاهر أويس، وغيرهم الكثير من الدعاة والطلبة الذين استفادوا من جهوده فى نشر الدعوة السلفية.
في عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز وصلت إلى مقديشو عام 1964 أول بعثة إسلامية لدراسة أوضاع المسلمين في الصومال، وذلك برئاسة الشيخ محمد ناصر العمودي مساعد الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، وعلى ضوء ما ورد في تقرير هذه اللجنة المتضمن ضرورة الاعتناء بالدعوة هناك، وإزالة بعض ما علق بالعقيدة الإسلامية من تحريفات، رصدت حكومة السعودية أموالا لابتعاث الدعاة والمرشدين إلى إفريقيا، وإنشاء معاهد علمية في كل من الصومال وأوغندا وكينيا، وأُسند هذا الأمر إلى دار الإفتاء برئاسة الشيخ محمد بن إبراهيم الذي باشر بناء المعاهد والمساجد. كما أرسلت رابطة العالم الإسلامي عام 1966م الشيخ عبدالرحمن حسين سمنتر، الذي بذل جهوده في الوعظ والإرشاد والتدريس، وألف ونشر عدة بحوث إسلامية تتحدث عن الرعيل الأول من المسلمين.[4]
وفي أكتوبر عام 1968م أسست (رابطة العالم الإسلامي) معهد التضامن الإسلامي في مقديشو، الذي استطاع في فترة وجيزة أن يخرج أعداداً كبيرة من الدعاة وطلبة العلم الأمر الذي مكن بعضهم أن يواصلوا دراساتهم في الجامعات الإسلامية بالمملكة السعودية والأزهر في مصر، ثم عادوا إلى بلادهم للعمل بالدعوة الإسلامية. وكان للسلفيين في هذه الفترة وما تلاها مراكز دعوية وحلقات للعلم والتدريس في مساجد عديدة، منها: (بكاراه ولافوين، وشيخ صوفي، ومسجد رمضان) ومن أئمة هذه المساجد البارزين (الشيخ ظاهر أندهابر) و(الشيخ عبد الله علي حاشي)، كما كان لهم مدارس وجامعات ومراكز صحية ومشاريع اقتصادية.
وبشكل عام، يتسم التيار السلفي بالتغلغل في أوساط المجتمع الصومالي بمختلف فئاته وطبقاته، والمعايشة مع همومه وقضاياه عن كثب، إذ يتمتع السلفيون بتواجد كبير في مختلف مجالات الحياة فيه، فمن البيت والأسرة إلى السوق مرورًا بالشارع والحافلات العامة، والمساجد، وخلاوي تحفيظ القرآن، تظهر تأثيرات الحالة السلفية على المجتمع، كما أن معظم الرموز الدينية في الصومال تنتمي للتيار السلفي بمختلف مسمياته وتكويناته، مثل الشيخ شريف عبد النور العالم الأزهري ومفتي الصومال، والشيخ محمد نور القوي، والشيخ عمر الفاروق، والشيخ عبد الله ديرية ابتدون، والدكتور أحمد حاج عبد الرحمن، والدكتور عثمان معلم محمود، والشيخ محمد حاج يوسف، وغيرهم من العلماء والدعاة المسلمين في الصومال.
البدايات التنظيمية
على الرغم من الحظر الرسمي الذي مارسته دفعت الحكومات الصومالية المتعاقبة-دون أن تقصد- في اتجاه تطور الحركة الإسلامية، ففي العام 1969م قام الجنرال سياد بري بانقلاب عسكري استولى في أعقابه على حكم البلاد، وبدأ به عهد من الماركسية المعادية للدين والمتدينين، كما شرع في محاولاته للسيطرة على التأثيرات الإسلامية في المجتمع الصومالي، ما أدى إلى هروب العديد من الصوماليين إلى الخارج والانضمام إلى الأعداد المتزايدة من أشقائهم في الشتات الذين هاجروا إلى الدول الخليجية، فأصبح العديد منهم على علاقة وثيقة بجماعة الإخوان المسلمين ومنهجها الدعوي والحركي والسياسي في حين تأثر الباقون بالمنهج السلفي والتيارات الجهادية في أفغانستان إبان الغزو السوفيتي.
وعلى الرغم من رقابة نظام سياد بري الصارمة للأجواء الاجتماعية والدينية إلا أن السلفية استطاعت وبثبات أن تنمو ويزداد عدد أعضائها[5]، ففي العام 1969 ظهرت جماعة (وحدة الشباب الإسلامي) في المناطق الشمالية من الصومال، ويقال إنها أقدم من هذا التاريخ.. سرعان ما وجدت لها شعبية في أوساط المدرسين وطلاب الثانوية في (هرجيسيا) و(بورعو) وبالرغم من أن هذه الجماعة في جوهرها تتبع الدعوة الوهابية وتشبه بقية المجموعات السلفية فيما يخص السلوك الفردي والقضايا الفكرية إلا أنها كانت متأثرة بالإخوان المسلمين خاصة في تأكيدها على التعليم وتعزيز الأدوار الاجتماعية وموضوع التنظيم الحركي، فيما يشبه السلفية (السرورية) الآن، وكان من بين دعاتها (الشيخ علي ورسمي) الذي تعلم في السعودية. وفي العام 1971م ظهرت (جماعة الأهل) كتنظيم لا يعبر عن انتماء فكري معين وإنما تشكيلة من الشباب المتأثر بموجات الصحوة في الأقطار الإسلامية، درس معظمهم في كل من مصر والسعودية.
كما ظهرت (الجماعة الإسلامية) في الجنوب كأول جماعة ذات توجهات سلفية تركز على تنقية الإيمان، وتهتم بالدعوة دون أن يكون لها علاقة بالعمل السياسي، تكونت من مجموعة غالبيتهم من طلاب (الشيخ محمد معلم حسن) – أحد أشهر رجالات الدعوة الإسلامية فى القرن الإفريقي – ومرتادي حلقاته العلمية، ومن خريجي الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، انشقوا جميعا عن جماعة (الأهل) بقيادة الشيخ محمود عيسى.
وفي فترة السبعينات أيضا ظهر أحد أهم مراكز الدعوة السلفية وأكثرها نجاحاً في إحدى ضواحي العاصمة مقديشو وهي منطقة (الهندي)، وأصبح العديد من الشيوخ والدعاة في هذه المنطقة مشهورين بدروس تفسير القرآن بعد أداء صلاة المغرب وغالباً ما كانت هذه المساجد ممتلئة بالمصلين.[6]
وفي العام 1975م أقدم النظام الشيوعي على إعدام عشرة من كبار العلماء الصوماليين بعد رفضهم قانونًا أثار الجدل على نطاق واسع يقضي بالمساواة بين الرجال والنساء في الميراث، وفي الحقوق العامة، لمخالفته الشريعة الإسلامية، كما أودع النظام في سجونه العشرات من العلماء، وكان إجراءا قاسياً دعا الجماعات الإسلامية وقتها إلى انتهاج العمل السري.
الاتحاد الإسلامي
ظهر (الاتحاد الإسلامي) – كأول تنظيم سلفي كبير- في أوائل الثمانينات (ما بين 1982 – 1984)، ضم المجموعات السلفية في كل من (الجماعة الإسلامية) في الجنوب، وحركة (وحدة الشباب الإسلامي) في الشمال، فيما يشبه اندماج للجماعتين في حركة سلفية منهجاً ومعتقداً، حيث يقوم منهجها على التوحيد، وتصحيح المفاهيم العقائدية، ومحاربة الشرك وتدريس أصول أهل السنة والجماعة. وكانت محاربة الشيوعية من أهم أهداف الحركة، كما عُرف عنها اعتنائها بالشباب الناشئ، وحرص أفرادها على مباينة المخالفات السلوكية القائمة في مجتمعهم، مع نشر الدعوة والنصح للمسلمين.
ويعد (الشيخ عبد العزيز فارح) مهندس فكرة تأسيس الاتحاد، إذ كان وقتها خريجًا في إحدى الجامعات السودانية، ومن أبرز علماء الحركة (الشيخ محمد معلم) الذي يُعرف بالأب الروحي للدعوة الإسلامية في الصومال، والشيخ علي ورسمي أول رئيس للجماعة.
بمرور الوقت ومع ازدياد الوعي الديني لدى الناس ازدادت أعداد الشباب المنضمين للاتحاد، كما استطاعت الحركة إدخال الدعوة الإسلامية إلى أوساط القبائل والعشائر دون أن تصطدم بهم، إذ أكسبها سلوكها وأدائها ثقة الجماهير. [7] ومع تنامي وجود الحركة بدأت حكومة سياد بري في مقاومتها، حيث رأت في الاتحاد الإسلامي مكمن خطر على مصالحها، إذ شكل طرح الحركة لرؤيتها القائمة على أن الإسلام لا يمكن فصله عن السياسة تحدياً جريئاً للنظام، حيث طالبت بتطبيق أحكام القرآن والسنة في جميع مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والمفاهيم الحياتية كبديل عن الشيوعية والديمقراطية والدساتير التي من صنع الإنسان، وهو ما دعا هذه الحكومة إلى تبني مجموعة من القرارات والإجراءات لحظر التجمع في المساجد، وعدم مخاطبة الجماهير فيها دون إذنٍ مسبق.
ومع نهاية حقبة الثمانينات ظهر تأثير الاتحاد في المجال السياسي من خلال احتجاجاته على النظام القائم، ففي مساجد مقديشو شرع وعاظه كـ (الشيخ عبد الله علي حاشي) في نقد النظام الدكتاتوري والسخرية من مظاهر الحصانة التي يتباهى بها، حتى اكتسب هؤلاء الوعاظ ومحاضراتهم نفوذاً كبيراً في أوساط طلاب الكليات والمدارس، ومثلت هذه المرحلة العصر الذهبي للاتحاد الإسلامي. كما شرعت الحركة في التحريض والدعوة لتحرير إقليم (أوجادين) من الاحتلال الإثيوبي وضمه إلى الأراضي الصومالية. وقد وصف الاتحاد نفسه على أنهُ المقدمة للدعوة والجهاد واختيار طريق الكفاح لتحرير المسلمين من الغزاة النصارى.
قدمت الحكومة عددا من قيادات الحركة للمحاكمة عام 1987م فحكمت على بعضهم بالإعدام، وكان منهم الشيخ حسن طاهر أويس، بعد اتهامه بالترويج للتنظيم الساعي إلى قلب نظام الحكم في أوساط الجيش والمجتمع، لكن بعد مساعي بذلت خُفف الحكم إلى السجن المؤبد، بعد وساطات قيل أن من بين من قام بها ولي العهد السعودي إثر طلب من الشيخ عبدالعزيز بن باز، وضغوطات دولية على حكومة سياد بري، فجرى الإفراج عن عدد منهم عام 1988[8] ، وما أن أفرج عنهم حتى عاد الاتحاد للعمل بقوة مرة أخرى.
في العام 1991م انهارت الحكومة المركزية، ودخل الصومال في مستنقع من الفوضى وعدم النظام، وهو ما أتاح للاتحاد الإسلامي التحرك بحرية، فلم يمر وقت طويل على سقوط النظام حتى تمكنت الحركة من إيصال دعوتها لكافة الأقاليم الصومالية، وبشكل ظاهر، بعد أن كانت سرية أيام سياد بري، وكان انتشارها أسرع من الريح.
وفي مؤتمرها العلني الأول يونيو/حزيران 1991م اتخذت الحركة قرارها بالاعتماد على العمل العسكري والأخذ بالجهاد كوسيلة لتحقيق الهدف[9]، كما ذكر الدكتور عمر إيمان في كتابه (تجربة المحاكم)، وأنشأت الحركة معسكرات تابعة لها في جميع أنحاء الصومال، وكان ذلك تقريبا أول نزوع سلفي علني إلى حمل السلاح وهو ـ برأيي ـ وليد خصوصية البيئة الصومالية التي وجد السلفيون أنفسهم جزء لا يتجزأ منها، يتأثرون ويؤثرون فيها، ما حتَّم عليهم التعامل مع تحدياتها. إذ كان البلد يغلي بالصراع القبلي، والعنف الفوضوي إلى جانب الانخراط في حالة حرب لا تنقطع سواء مع جارتها إثيوبيا، أو بين تجار الحرب في الداخل. لذلك فمن العبث السخرية من فعاليات التيار السلفي الجهادي أو اعتبارها ميلا للعنف فقط بدافع القدرة عليه، خاصة وأن حروبه ذات مواصفات عقدية وتستند لأدلة شرعية وليست مصالح سياسية أو اقتصادية بالإضافة إلى ما تستوجبه على الإسلاميين من تضحيات سواء الموت أو المطاردة مدى الحياة، وهذا يُحتِّم على من ينتقدها مناقشة هذه الأدلة وردها إن أمكن انطلاقا من أحكام الشرع نفسها.
ولعل خصوصية الإسلاميين في الصومال وخصوصية حركاتهم أمر ملاحظ ، ومسألة يقف عليها كل متابع لنشأة وتطورات الحركة الإسلامية هناك، نظرا لخصوصية البيئة الحاضنة، بما تحمله من تعقيدات وتداخل بين العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فعلى الرغم من الخلفية الوسطية للمجتمع الصومالي، واعتناق غالبية الصوماليين المذهب الشافعي، وتأثرهم بالمدارس الإسلامية المعتدلة في مصر والسعودية والسودان واليمن، إلا أن ظروف الحرب الأهلية والتحديات الخارجية، أفرزت واقعا جديدا، فقد سار العمل الدعوي وما يزال متوازيا مع المجهود العسكري[10].
عملت حركة الاتحاد الإسلامي على تدريب أعضائها وتعليمهم فنون القتال، ومما ساعدها على ذلك أجواء الحروب الداخلية حيث انتشرت الأسلحة بأنواعها في أيدي الشعب عقب سقوط الدولة، فحصل الاتحاد على كمية من الأسلحة، وتمركزت قواته في ثلاثة مدن: (مركا) عاصمة محافظة شبيلي الوسطى على ساحل المحيط الهندي و(لوق) المعسكر الرئيس للحركة جنوب غرب البلاد قريبا من حدود إثيوبيا، كما كانت الحركة تسيطر على ميناء (بوصاصو) على ساحل البحر الأحمر، وفتحت معسكرات أخرى فرعية في مناطق كثيرة من الصومال مثل (رأس كامبوني) القريبة من كينيا و(لاس عانة) شمال البلاد، وأسست معسكرات عدة في إقليم (أوجادين) المحتل، منها (جدو) على الحدود مع إثيوبيا، ومعسكر (طارق بن زياد).
دخلت الحركة في مواجهات مع الميليشيات القبلية، وأمراء الحرب المدعومين من إثيوبيا: في الجنوب أمام (الجنرال عيديد)، وفي شمال شرقي البلاد أمام (العقيد عبد الله يوسف)، وفي عام 1993حاربت الأمريكان إلى جانب الجنرال عيديد، وفي غرب الصومال خاضت المواجهات أمام الجيش الإثيوبي، في إطار الكفاح المسلح ضد السيطرة الإثيوبية على الأراضي الصومالية، وقد أعلن مقاتلو الاتحاد عن وجودهم من خلال الأعمال الفدائية المتزايدة، إلا أن هذا الزخم وتعدد الجبهات دفعهم إلى خوض معارك غير متكافئة ومتزامنة.
صممت أديس أبابا على إزالة الاتحاد واقتلاعه من جذوره فعمدت إلى تسليح المليشيات القبلية وتدريب عناصرها للتخلص من الحركة، ولعبت أدوارا مباشرة وغير مباشر في ذلك بدعم مالي ومادي أمريكي، وكانت هذه الميليشيات تنتمي إلى قبائل شتى لاسيما القبائل القريبة من الحدود، ولم تزل إثيوبيا بالمرصاد تحارب الاتحاد الإسلامي بالسلاح والإعلام بالتعاون مع أمريكا واعتماداً على معلومات (السي آي إيه) وذلك في إطار التحالف الأمريكي الإثيوبي في القرن الأفريقي الذي مثل الإسلاميون أكبر التحديات أمامه. ففي العام 1992 هاجمت قوات أديس أبابا معسكر طارق بن زياد، وقتلت ما يزيد عن الستمائة من مقاتليه، وفي أواخر عام 1993م وبدايات عام 1994م، قامت بتنفيذ هجمات جوية وأرضية على طول الحدود ضد قوات الاتحاد، قالت الحركة إن القوات الأمريكية كانت مشاركة في تنفيذها. وعلى إثر محاولة الاتحاد الإسلامي دعم الاتحاد الإسلامي الأوجاديني، الذي يسعى لتحرير أراضيه، هاجمت إثيوبيا في العام 1996 ولاية (لوق) الإسلامية، وبعد حرب عنيفة استخدمت فيها أديس أبابا الأسلحة الثقيلة والقصف الجوي قتل مئات من السكان المدنيين، الذين نزحوا إلى المنطقة طلبا للأمن والحماية!! وكانت هذه الحادثة سببا رئيسا لزوال الجناح العسكري للاتحاد الإسلامي، ووقوع الخلاف بين قيادته، الذين قرروا على إثر ذلك حل الحركة وإغلاق معسكراتها تماما.
تجاذبات الدعوي والعسكري
تعد هذه المرحلة (أوائل ومنتصف تسعينيات القرن الماضي) مرحلة فاصلة في تاريخ الوجود السلفي وتطوراته في الصومال، شهدت التجاذب بين الدعَوي والعسكري، كما شهدت انقسامات واسعة داخل أكبر حركة سلفية في البلاد (الاتحاد الإسلامي)، التي كان أبرز المنشقين منها: جماعة (الاعتصام بالكتاب والسنة)، والسلفية الحكومية، والسلفية المستقلة (اللا تنظيمية) الذين اختاروا العمل الدعوي السلمي والتخلي عن السلاح.
ويمثل هذه السلفية اللا تنظيمية مرجعيات دعوية منتشرة في مدن كثيرة بالصومال، تدعو إلى هجر التنظيمات الدينية الحركية، باعتبارها بدعة مناقضة لمنهج السلف، كما ترفض التوجه السياسي للسلفيين.. دخلت اللا تنظيمية مجادلات مع السلفية التنظيمية ممثلة في (جماعة الاعتصام) ودعت إلى اللا جماعية في العمل الدعوي، وعلى رأس هؤلاء الشيخ حسن حبيب، ومن معالم منهجهم: الاعتماد على التربية والتعليم (التربية والتصفية) كأداة وحيدة للتغيير، والدعوة إلى طاعة الأمراء، والتنديد بالأعمال المسلحة باسم الجهاد في أي مكان. وخلال التدخل الإثيوبي في الصومال لم يعرف لهؤلاء (اللاّجماعية) مشاركة في المعارك رغم انتمائهم السلفي، بل اعتبروا ما يحدث حرب فتنة رافضين تكفير الحكومة، وقادة هذا الفكر متأثرون ببعض المدارس السلفية في الخليج وبصفة خاصة السعودية التي ليس للإسلاميين نصيب من الحياة السياسية فيها، منها مدرسة الشيخ ربيع بن هادي المدخلي، وبعض تلامذة الإمام محمد بن ناصر الدين الألباني.
إلا أن أطرافا سلفية أخرى ظلت متمسكة بالعمل العسكري، إذ كانت تراه يسير متوازنا مع العمل الدعَوي لا يعوقه ولا يقلل منه، لم تعادِ هؤلاء (الدعويين) ولم يعادوها بل أبقى الجميع على ما معه من خيوط وروابط. وقد نجحت هذه الأطراف (كجماعة الاعتصام، والتنظيمات الأخرى التي تفرعت من انهيار الاتحاد الإسلامي) خلال فترة وجيزة في بناء قوة عسكرية لا يستهان بها، حتى باتت قاب قوسين أو أدني من السيطرة على مقاليد الحكم فيما بعد، إلا أن الأجواء السياسية والعسكرية بقيت على تقلباتها التي لا تحالفهم في الصومال، على الأقل حتى الآن.
جماعة “الاعتصام بالكتاب والسنة”
بعد تعرض الاتحاد الإسلامي لهزائم متلاحقة في الميدان العسكري كافح بعض قادتها للمحافظة على بقاء الحركة، لكن دون جدوى، ففي العاشر من أغسطس/ أب لعام 1996م أي في اليوم التالي للهجوم الإثيوبي على “لوق” أدان الشيخ (حسن طاهر أويس) الهجمات التي نسبها للتحالف الإثيوبي الأمريكي بقيادة العملاء في “الجبهة الصومالية الوطنية” التي تزعمها حسين عيديد[11]، واعتبر الولايات المتحدة العدوَّ الأول للمسلمين متهماً حكومتها بالسعي لإخضاع كامل القرن الإفريقي لسلطتها وجعلها قاعدة مسيحية، كما وجه الدعوة إلى المسلمين للتضامن مع الاتحاد في مقاومة العدوان الأمريكي وإرسال المساعدات لإخوانهم الصوماليين، لكنه أصدر البيان باسم منظمة مجهولة في ذلك الوقت هي (جماعة الاعتصام بالكتاب والسنة).
ذهب مراقبون إلى إن الاسم الجديد جاء كمبادرة بهدف إعادة توحيد صفوف الجماعة مرة أخرى وإنعاشها من جديد بعد الضربات التي أنهكتها، فضلا عن التحرر من الضغط العسكري الإثيوبي. فقد ظهر هذا الاسم نتيجة للخلافات بين قادة الاتحاد، وفي إطار مساعي الحركة لتعليق النشاط المسلح والابتعاد عن التوجه العسكري، وكان هو أحد أسماء بديلة ظهرت في هذه المرحلة الفاصلة منها (التجمع الإسلامي للإنقاذ) و(جماعة الجهاد والدعوة).
تنتمي حركة الاعتصام إلى السلفية الإصلاحية، وهي من أكبر الجماعات الدعوية في الصومال الموصوفة بالاعتدال، جمعت بين التنظيم الحركي للإخوان المسلمين والمنهج السلفي، الذي يركز على التوحيد، وفهم السلف الصالح للعقيدة والدعوة والسلوك ومنهج النظر والاستدلال، ومن أبرز معالم دعوتها “اهتمامها بأمور العقيدة والأتباع ونشر العلم الشرعي، والسعي لتحقيق الوحدة بين العاملين في حقل الدعوة في الصومال”[12] وتطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد. عملت الاعتصام على نشر الدعوة الإسلامية في ربوع الصومال، بجهود مؤسسها الشيخ بشير أحمد صلاد، الذي أكد على منهجه السلمي قائلا: “لا نرى استعمال العنف والقوة في منهجنا للتغيير، لأننا جماعة ولسنا سلطة، ونحن دعاة ولسنا دولة، وقد جعل الله لكل شيء قدرًا”. وينتمي إلى الجماعة عدد من كبار العلماء أمثال الشيخ شريف عبد نور، والشيخ عمر فاروق، والشيخ عبد القادر جعمى، والدكتور أحمد الحاج عبد الرحمن، والشيخ عبد القادر نور فارح أشهر علماء (بونت لاند)، فضلا عن محمود عيسى خريج الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، الذي تولى إمرة الحركة فترة طويلة.
ولا يختلف الخط الفكري للجماعة كثيرا عن الخط الفكري لسلفها (الاتحاد الإسلامي) إذا استثنينا التباين حول الموقف من مباشرة العمل العسكري والسياسي، وهذا الجدل هو الذي ميز المنتمين إلى هذه الجماعة بين متبنيين للعمل العسكري، ودعاة رافضين لعسكرة الدعوة، فمنذ نشأتها عاشت الاعتصام في ظل تجاذب داخلي بين (السلفية الجديدة) وهو تيار دعوي صرف، والفكر السلفي الجهادي الذي يرى التصدي لكل تحديات العمل الإسلامي على الساحة الصومالية بما فيها العسكري.
الجبهة الإسلامية الصومالية
تعد (الجبهة الإسلامية) الذراع العسكرية التي أنشأتها جماعة الاعتصام لمواجهة المناوئين لها، وقادها الشيخ عبد الله عمر، معتمدة في ذلك على انتشارها في أنحاء البلاد وانضواء عناصر من مختلف القبائل في صفوفها، لاسيما في الجنوب، حيث تمكنت من بسط هيمنتها ونفوذها على مناطق حيوية.
شدّدت الجبهة ومنذ بيانها الأول على تبني الخط الجهادي كطريق وحيد لطرد المحتل ومن والاه، كذلك العمل على إقامة دولة إسلامية، نافية ارتباطها بأي جهة خارجية، وأوضح قادتها في مناسبات عديدة أن الجبهة لا تستهدف الصوماليين في جهادها. كانت الجبهة الإسلامية واحدة من الجماعات التي شاركت في تأسيس القوة العسكرية لـ(اتحاد المحاكم الشرعية) التي برزت كقوة سياسية وعسكرية جديدة بالصومال في يونيو 2006، بعدما أنزلت قواتها الهزيمة بزعماء ميليشيات الحرب التي تساندهم الولايات المتحدة وإثيوبيا، وسيطرت على مقديشو ومناطق إستراتيجية أخرى بوسط وجنوب الصومال، ولكن مع مطلع العام 2007 أطاحت القوات الإثيوبية الداعمة للحكومة الانتقالية التي يرأسها عبدالله يوسف بالمحاكم الإسلامية من السلطة.
وبعد شهور من هزيمة المحاكم أمام الجيش الإثيوبي المدجّج بأحدث عتاد عسكري والمدعوم من قبل الإدارة الأمريكية جمع قادته من بقي من المقاتلين الإسلاميين في مدينة كسمايو (500 كلم جنوب مقديشو) كآخر معسكر لهم، وفي غابات جنوب الصومال التي لجأ إليها جموع المقاتلين استطاع القيادي البارز حسن تركي (90 عاما) إعادة هيكلة تلك القوات مرة أخرى بعد تدريبات طويلة حتى تمكنت من إعادة تنظيم صفوفها للعودة إلى ساحة المقاومة من جديد، فاشتدت ضرباتها ضد الإثيوبيين من خلال عمليات الكر والفر وحرب العصابات والشوارع حتى قررت قوات أديس أبابا سحب جنودها، وما إن عادت المحاكم إلى الساحة العسكرية والسياسية حتى انشق عنها عدد كبير من الفصائل بداية بجناحي (جيبوتي) و(أسمرا) وما تبعهم من (الجبهة الإسلامية) و(رأس كامبوني) ثم (حركة الشباب) و(الحزب الإسلامي).
ففي 12ديسمبر 2007 أعلنت (الجبهة الإسلامية) تشكيل جبهة جديدة مستقلة لمقاتلة القوات الإثيوبية بجانب قوات (التحالف من أجل تحرير الصومال)، وأرجعت الجبهة اتخاذها تلك الخطوة إلى ما وصفته بـ “إعادة تقويم وتصحيح مسار المقاومة في المجالات السياسية والإستراتيجية ضد العدو الإثيوبي”. إلا أن مراقبين أرجعوا الخطوة إلى الخلافات داخل حركة الاعتصام حول ترك العمل الجهادي من أجل التفرغ للعمل الدعوي والتعليمي وبين ضرورة التمسك بخيار الجهاد ضد الاحتلال.. الأمر الذي استقر في نهاية المطاف على قرار الحركة بتغيير القيادة وتكوين جبهة جديدة لمقاتلة القوات الإثيوبية بشكل منفصل عن قوات المحاكم الإسلامية.
ذاع صيت الجبهة في العام 2008م عندما شنت هجوماً مباغتاً على مركز عسكري حكومي قرب مقطع الكيلومتر5 وألحقت بالقوات الحكومية هناك خسائر فادحة. وفي نفس العام 2008م أعلنت رسميا انشقاقها عن المحاكم الإسلامية وأنها خرجت من قواتها.. ومع هذا الإعلان واجهت الجبهة ضغوطا من القيادات من أجل محاولة إعادتها إلى حظيرة المحاكم، مما جعلها تتصدع إلى فصِيلين، أحدهما مُوالٍ للمحاكم والآخر يستقل عنها.
وفي أوائل عام 2009 أصدرت الجبهة الإسلامية بيانا توضح فيه موقفها من القضايا السياسية والأمنية على الساحة الصومالية، مؤكدة على معارضتها مجيءَ أي قوات أجنبية إلى البلاد, وأنها لا تفرق بين القوات الأفريقية المعروفة بـ”أميصوم” والقوات الإثيوبية، وأن الجبهة ستواصل جهادها المسلح ضدهم جميعًا حتى يتم إخراجهم من البلاد. كما أكدت على أن جهادها المسلح ليس موجهًا نحو الشعب الصومالي بكافة أنواعه كالعلماء والمثقفين والمجتمع المدني، إضافة إلى كل من يُقدِّم مساعدة للمجتمع الصومالي المنكوب، نافية أن تكون طرفًا في عمليات هدم القبور التي جرت في عدة محافظات في الجنوب، والتي اتهم متحدثون للطرق الصوفية في الصومال بوقوف جماعتي “الشباب المجاهدين” و”الجبهة الإسلامية” وراءها.
وفي 2 فبراير 2009 انضمت الجبهة الإسلامية إلى ائتلاف مكون من معسكر رأس كامبوني، ومعسكر الفاروق (عانولي)، والمحاكم الإسلامية جناح أسمرا، لتشكيل الحزب الإسلامي بقيادة الشيخ عمر إيمان أبو بكر.
حركة الشباب المجاهدين
تُعد (الشباب المجاهدين) واحدة من أكثر الحركات السلفية الجهادية صعودًا خلال الفترة الأخيرة، وواحدةً من أقوى المجموعات المسلحة، حتى باتت تمثل الرقم الأهم في المعادلة الصومالية. يعود تأسيسها إلى عام 2004 إذ يعتبرها بعض المراقبين امتدادا طبيعيا لجماعة (الاتحاد الإسلامي) التي جرى حلُّها 1996 لكن اختار هؤلاء الشباب مواصلة حمل السلاح. وفي العام 2005 توحدت أربعة معسكرات في العاصمة مقديشو (معسكر عيل غرس ومعسكر رأس كامبوني، ومعسكر صلاح الدين، ومعسكر سوق بعاد) لمواجهة تنامي نفوذ زعماء الحرب الذين كانت تساندهم الاستخبارات الأمريكية، وكان الشباب جزءاً من هذا الاتحاد.
ورغم أنهم (الشباب) انضموا إلى جماعة الاعتصام باعتبارها وريث الاتحاد الإسلامي إلا أنهم رفضوا قرارها القاضي بتجميد الأنشطة المسلحة، وكوَّنوا تنظيمًا خاصًّا بهم، ففي كتابهِ (تجربة المحاكم) يقرر د.عمر إيمان أن(الشباب المجاهدين) كانوا جزء من جماعة (الاعتصام بالكتاب والسنة) إلا أنها فصلتهم عام 2006 خوفاً من أن “يرتكب هؤلاء الشباب صغار السن أخطاء تنسب فيما بعد إلى الجماعة”، وكوَّنت تلك المجموعة المفصولة جماعة خاصة بهم باسم (جماعة الشباب). وهو ما يراه البعض نتيجة طبيعية للتصادم الحاصل بين حماسة الشباب وحكمة العلماء المخضرمين الذين اختاروا طريق الدعوة.
وبعد إنشاء (اتحاد المحاكم الإسلامية) كان هؤلاء الشباب جزءًا رئيسيًّا منه، وظلت الحركة تمثل النواة الصلبة للمحاكم في فترة استيلاء الأخيرة على أكثرية أراضي الجنوب الصومالي في النصف الثاني من عام 2006، إلا أنّهم احتفظوا بأُطُرهم التنظيمية، إلى أن اختلفوا مع المحاكم بعد هزيمتها على أيدي القوات الإثيوبية وإنشاء(التحالف من أجل تحرير الصومال) في العاصمة الإريترية أسمرا بقيادة الشيخ شريف شيخ أحمد في سبتمبر عام 2007م، حيث اعتبر الشباب خطوة التحالف مع العلمانيين أو مَن لهم صلة بالحكومة الانتقالية بقيادة عبد الله يوسف “غير متوافقة” مع مبادئهم، ومِن ثم رفضوا الانضمام إليها رغبة في إنشاء حركة جهادية لا تأتمر من أي جهة.
تسعى الحركة إلى تحرير كامل التراب الصومالي، وتأسيس دولة إسلامية لا تقوم على أساس القوميات بل الانتماء الديني. وتصفها بعض التقارير الغربية بأنها عضو في التنظيمات الجهادية السلفية العالمية التي يوجد بها مسلحون تتعدد جنسياتهم، وينتمون لبلدان شتى من العالمين العربي والإسلامي. فحركة الشباب من جانبها ترحب باستقبال المقاتلين في صفوفها، سواء كانوا عربا من اليمن والجزيرة العربية، أو أجانب من أوروبا وأمريكا، ومما يدلل على ذلك بيانات وتصريحات الناطق الرسمي الشيخ (أبو منصور علي ربو) المتكررة بأنهم “يفتخرون بانضمام مجاهدين مهاجرين” إلى صفوف الحركة. كما جاء في “بيان القيادة العامة لحركة الشباب المجاهدين” 2010. (16)
ويتردد أن الشباب تتلقى الدعم من الخارج وتراه نوعا من النصرة، سواء كان هذا الدعم في صورة أسلحة ومعدات من إريتريا، أو متطوعين، ما يمكنها من الاستمرار في الحرب. وتوصف عملياتها العسكرية بأنها تعتمد الطريقة العراقية من تفجير عبوات مزروعة في الطرقات، وسيارات مفخخة، وعمليات القصف المدفعي على القصر الحكومي ومقرات القوات الأجنبية، وهي تستغل شبكة الإنترنت لنشر بياناتها وتسجيلاتها التي تنشر في أغلب الأحيان بمواقع ذات صبغة سلفية جهادية.
تمتلك حركة الشباب جيشين أحدهما يسمى “جيش العسرة”، ومهمته عسكرية صرفة والآخر يسمى “جيش الحسبة” ومهمته اجتماعية، تستهدف فض النزاعات القبلية المستعصية، وحماية المجتمع، وخاصة التجار والأهالي، ومطاردة اللصوص والمجرمين والقراصنة وقطاع الطرق وإقناع التشكيلات الاجتماعية بتطبيق الشريعة[13]. فقد عملت الحركة خلال الفترة الماضية على التركيز علي تثبيت القواعد وإرساء الدعائم داخل القبائل القاطنة في مناطق جنوب الصومال، ولاسيما المهمشة منها في عهد أمراء الحرب وذلك من خلال فرض الأمن، وتطبيق العدالة الغائبين منذ عقدين من الزمان عن تلك المناطق.
ففي أعقاب الانتصارات التي حققتها المقاومة الصومالية وبعد خروج القوات الإثيوبية سيطرت الحركة سريعا على عدد من المدن والموانئ الإستراتيجية في الجنوب الصومالي، مثل كسمايو ومركا وبيداوة، وفي المدن التي سيطر عليها الشباب طبقوا الشريعة الإسلامية، وأزالوا ما أمكنهم من المخالفات الشرعية، حسب منهجهم، ففي مقابلة أجريت معه، يقول الشيخ حسين شيخ علي فيدو مسئول الدائرة السياسية للحركة: “من أهدافنا الرئيسة تصحيح الانحرافات العقدية التي انتشرت في الصومال، وإنشاء إمارة إسلامية”، وأضاف: “بفضل الله تم تدمير وإزالة المعابد الخاصة للطرق الصوفية في جميع المحافظات الخاضعة لسيطرة الولايات الإسلامية التابعة لحركة الشباب المجاهدين[14].
ونظرا للعداءات بينها وبين جهات وأطراف عدة، تقاتل حركة الشباب الآن في ثلاث جبهات مرة واحدة: مسلحي الحزب الإسلامي بقيادة أحمد مدوبي في المناطق الجنوبية بالقرب من الحدود الكينية، وفي مقديشو تحارب الحكومة الانتقالية والقوات الأفريقية الداعمة لها، وفي وسط الصومال تواجه ميليشيا الطرق الصوفية المعروفة بـ “أهل السنة والجماعة”.
وبالرغم من تبنيها الكثير من نهج القاعدة خاصة في السلوك والتغيير، والرغبة في تخطي الحدود السياسية، والعداء السافر للمصالح الغربية، فضلا عن كون مشروعها في مجمله واسع الطموحات، جسيم التحدي، والذي يظهر من تصريحات بعض قادتها (17) إلا أنها لم تنضم إلى تنظيم القاعدة ولم تعلن بيعة رسمية لزعاماته بالرغم من أن قادة الحركة كثيرو الإشادة بأسامة بن لادن وجهاده ونقده الإمبريالية العالمية التي تقودها واشنطن ولا يوجد ما يمنع الحركة من البيعة والتعامل مع مقتضياتها إذا دعت الحاجة.
الحزب الإسلامي
أَجبرت خطوة «الشباب» أحادية الجانب بخروجها من المحاكم الإسلامية، كل من معسكر رأس كامبوني، ومعسكر الفاروق (عانولي)، والجبهة الإسلامية، والمحاكم الإسلامية جناح أسمرا على التحرك الفوري والاتحاد في ما بينهم عسكريا وإداريا. فأعلنوا في شهر شباط (فبراير) من عام 2009 تأسيس (الحزب الإسلامي) بقيادة الشيخ عمر إيمان أبو بكر ونائبه الشيخ حسن عبدالله حرسي، المعروف بحسن تركي. وهو تحالف سلفي يتبنى الفكرة الجهادية لكن على مستواها الوطني غير العابر للقارات.
طرح الحزب الإسلامي نفسه كبديل عن الحكومة الانتقالية، واعتبرت جهات عديدة أن تأسيس الحزب في هذا التوقيت سيؤدي إلى تقوية الصف المعارض لحكومة الشراكة بقيادة الرئيس شريف شيخ احمد. إذ تتمثل أهم مطالب الحزب في الدفع ببطلان الشراكة السياسية بين تحالف إعادة تحرير الصومال (جناح جيبوتي) والحكومة الانتقالية وضرورة مغادرة قوات الاتحاد الإفريقي من الصومال، ويقول قادة الحزب إنهم سيواصلون الجهاد ضد قوات الاحتلال وكل من يدور في فلكها[15].
وبينما قاوم الاثنان ـ حركة الشباب والحزب الإسلامي ـ الحكومة الانتقالية بقيادة شيخ شريف شيخ أحمد إلا أن الخلافات وقعت بينهما، واستفحلت إلى درجة دخولهم في قتال عنيف جنوب الصومال، مما أدى إلى سيطرة حركة الشباب على كسمايو ومعظم المناطق المتاخمة للحدود الكينية، واستقطبت الحركة عددا كبيرا من قيادات جماعة رأس كمبوني ومقاتليها ما انتهى إلى إعلانهما التوحد في حركة واحدة هي الشباب المجاهدين.. وتعد جماعة رأس كمبوني من أقدم الجماعات الإسلامية الصومالية المسلحة، اكتسبت اسمها من معقلها الشهير في منطقة رأس كمبوني الساحلية في أقصى جنوب الصومال.
احتمالات الاندماج بين الشباب والحزب الإسلامي
بالرغم من الخلاف والقتال الذي يقع من وقت لآخر بين حركة الشباب والحزب الإسلامي على بعض مناطق النفوذ إلا أن المراقبين يتحدثون عن توقعات باتحاد ربما يكون وشيكا بين الجماعتين.
فقد تحدثت تقارير عديدة عن مناقشات جادة جرت بينهما حول هذا الهدف، توصل خلالها الطرفان إلى اتفاق تنال بموجبه حركة الشباب منصب رئيس الدولة (في حال نجحا في إعلان دولة إسلامية بالصومال) على أن ينال الحزب مناصب سيادية بينها وزارة الدفاع، غير أن تباين وجهات النظر حول التطورات الأمنية في منطقة جوبا، وبعض خلافات اللحظات الأخيرة، أدت إلى تعثر المفاوضات.
وتحدثت قيادات بارزة وأعضاء في اللجنة التنفيذية بالحزب الإسلامي عن وجود أزمة فكرية وسياسية داخل الحزب، نتيجة المواجهات العسكرية العنيفة بين مقاتلي القائد (أحمد مدوبي) التابع للحزب وبين عناصر الشباب في جوبا.(18) فهناك تياران داخل اللجنة التنفيذية للحزب، أحدهما يدعو للانضمام إلى حركة الشباب المجاهدين ثم إعلان دولة إسلامية، في حين يرفض الآخر تلك الفكرة ويشترط أوَّلا حل النزاع العسكري القائم بين الجانبين في منطقة جوبا، بالوسائل السلمية وفقا للشريعة الإسلامية، فالصراع قوي على جميع المستويات داخل الحزب الإسلامي وسط استقطاب حاد بين التيارين.
إذ يُعد العداء المستحكم بين أحمد مدوبي وحركة الشباب حجر العثرة الأكبر في الطريق بين اتحاد الحركتين، وقد تباينت وجهات نظر الفريقين، فبينما وصف الحزب الإسلامي تلك المعارك بأنها “حرب فتنة وقعت بين المجاهدين”، ترى حركة الشباب أنها “وقعت بين المجاهدين من الشباب وبين مليشيات يقودها المرتد أحمد مدوبي”، وهو ما صاحبه جدل واسع بينهما حول مسألة رِدة(مدوبي) إذ يرفض زعيم الحزب الإسلامي الشيخ حسن طاهر أويس موقف الشباب منه. (19)
وتحرص قيادات الحزب الإسلامي على عدم الطعن في الشباب المجاهدين بوصفهم فصيلاً جهادياً مؤثراً له جهوده في الساحة وإن أبدَوا مخالفتهم في بعض المسائل، وكذا العكس ولاسيما إذا فرقنا بين تصريحات الرسميين، وما يقوله الأتباع المتحمسون والقواعد من المقاتلين في الحركتين. ويذهب الشيخ عمر إي