الملخص: يجمع الباحثون والمراقبون للتيار الجهادي أن هذا الأخير يمر بأصعب أزماته مند انطلاقته قبل ثلاثة عقود, هذه الأزمة التي أحدثت شرخا عميقا في الجسم الجهادي, وخلفت تصدعات متفاقمة على صعيد البنية التنظيمية والأيديولوجية للتيار. عوامل الأزمة وأسبابها كثيرة ومتشعبة لكن منبعها الأساسي يعود إلى ثغرات وفراغات كامنة في صميم الفكر الجهادي لعل من أهم هذه العوامل: غياب الفقه السياسي والتصور الواضح لماهية الحكم والدولة في أدبيات التيار الجهادي, تخبط في بعض المفاهيم الشرعية كالبيعة والإمارة, وافتقار الحركة الجهادية للعمق التربوي, وإهمال رموزها للنقد والذاتي والتقييم الدوري للحصيلة والمنجزات. هذه العوامل وغيرها أسفرت عن مشهد جهادي متخبط يندر بإعادة إنتاج اللحظة الجزائرية بتفاصيلها المريرة.
كان إعلان أبو محمد الجولاني أمير جبهة النصرة (القاعدة في سوريا) الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام, وتهديده بنقل المعركة إلى معاقل الدولة داخل العراق, حدثا مفصليا في مسيرة التيار الجهادي مند نشأته. لأنه يعني أن التيار الذي حافظ على نفسه كبنية منسجمة ومتماسكة بفضل وجود مرجعية شرعية وقيادية موحدة, بدء الآن يفقد هذا الانسجام وهذا التماسك وأصبح يتجه بنحو متسارع إلى مزيد من الانشطار والتشظي, سواء على مستوى البنية التنظيمية أو الأيديولوجية. في هذه الورقة البحثية سنحاول الوقوف على الأسباب والعوامل التي أدت بالحركة الجهادية العالمية إلى هذه النتيجة, كما سنحاول تقديم تصور مستقبلي لمالات الخطاب الجهادي الأممي في ظل أزماته المتعددة.
إن أي مقاربة تشريحية للخطاب الجهادي العالمي ستكشف عن وجود ثغرات فكرية وفقهية ضلت تتسع في الجسم الجهادي حتى أسفرت عن حالة من التدهور في كل الأصعدة وبدا فيها أبناء المدرسة الفكرية الواحدة (السلفية الجهادية) في صراع وجودي لا يمكن إخماده بالآليات التقليدية كالصلح والهدنة ـــ بسبب هاجس غياب الثقة المتبادل ـــ إلا بعد حسم الخلافات الفقهية وسد الفجوات الفكرية المعقدة التي اعتاد رموز التيار الجهادي ومنظريه كنس مخرجاتها تحث السجاد دون التصدي لها بحثا ونقاشا.
قد يخلص أي باحث ملم بأدبيات وتفاعلات التيار الجهادي في مختلف الساحات وعبر مسيرته الممتدة لأكثر من ثلاثة عقود في رصده لأزمة التيار الجهادي أن الإشكالات التي أفضت بالتيار إلى أزمته الراهنة عائدة إلى عوامل لعل من أهمها : غياب الفقه السياسي والتصور الواضح للحكم والدولة, تخبط في مفاهيم البيعة والإمارة, إهمال الجانب التربوي في بناء الشخصية والجماعة الجهادية, الارتجال في العمل وغياب المواثيق الضابطة المنضبطة, خلل في مفهوم الجهاد والشهادة, غياب النقد الذاتي..هذه العوامل والإشكالات وغيرها هي التي ساهمت في الدفع بالخطاب الجهادي إلى دائرة الأزمة. قد يكون قادة التيار الجهادي منتبهين لهذه الثغرات الآن وهم بصدد التصحيح والتقويم لحركتهم وهو ما يتضح في آخر صيغة تنظيمية ظهر بها الخطاب الجهادي العالمي وهي جبهة النصرة في سوريا, التي استطاعت تجاوز الكثير من المفاهيم العتيقة التي كانت تكبل حركة التيار الجهادي وتمنعه من التجديد والتصحيح والانفتاح. فلنستعرض سريعا وبإيجاز بعض العوامل السابقة.
غياب الفقه السياسي
لا يخفي التيار الجهادي أنه يقاتل من أجل إقامة الدولة الإسلامية و ” تحكيم الشريعة”, لكن إذا فتشت في أدبياته مند نشأته لن تجد كتابا واحدا ولا محاضرة واحدة تتناول شكل الدولة التي يسعى إلى إقامتها, حتى وان تكلم أي من الجهاديين ورموزهم عن الحكم و الدولة التي ينشدونها فغالب كلامه يكون على هذا المنوال:” فإن من اتخذ حَكَماً ومشرّعاً سواه سبحانه، تابعه وتواطأ معه على تشريعه المناقض لشرع الله، فقد اتخذ غير الله رباً، وابتغى غير الإسلام ديناً” (1). أما الحديث مثلا عن الشروط الشرعية و الموضوعية لإقامة الدولة وطبيعة السلطة فيها ومركزية الشورى وأصالة الأمة ودورها, واليات تنصيب الإمام وعزلة وصلاحياته ومدة ولايته و ضرورة وجود الدستور الذي يضبط العلاقة بين مختلف السلطات, وحدود التبني, وشرعية الأحزاب والتنظيمات التي تؤطر الاجتهادات والرؤى المختلفة داخل المجتمع. كل هذه المبادئ التي تندرج في إطار الخطاب السياسي الشرعي لا وجود لها في أدبيات الجهاديين ولم يسبق لرمز من رموزهم أن تحدث عنها, أو حتى أحال على من عرف باختصاصه في هذا المجال, وكانت نتيجة وجود هذه الثغرة في فكر الجهاديين أنهم حينما قرروا إعلان دولة إسلامية في العراق, جاءت خطوتهم قاتلة مجهزة على معظم انجازات حركتهم وتضحياتهم وتضحيات غيرهم, وأصبحت هذه الدولة كما يعتقد الكثير من كبار قادة التيار الجهادي عقبة أما المشروع الإسلامي التحرري الصحيح.(2) هذه الدولة “النموذج” أو الصيغة البدائية للحكم, خصمت من رصيد الجهاديين الشيء الكثير, لذلك مند فترة بدأ رموز التيار الجهادي يدركون قصور تصوراتهم لماهية الحكم الإسلامي عندما أيدوا قيام “دولة العراق الإسلامية”, وأصبحوا الآن في محاضراتهم يشيرون إلى بعض النقاط التي تدل على تحول مهم في نظرتهم لمفهوم الدولة وطبيعتها, وإذا كانت جبهة النصرة بمثابة صيغة تصحيحية كونها خرجت وتمردت وحاربت دولة العراق الإسلامية التي أصبحت فيما بعد دولة العراق والشام الإسلامية, فانه يمكن رصد معالم النضج والتطور واضحة في خطابات أبي محمد الجولاني أمير جبهة النصرة مثل تعليله لقرار رفضه إعلان اندماج تنظيمه مع دولة العراق الإسلامية فقال:” ثم إن دولة الإسلام في الشام تبنى بسواعد الجميع دون إقصاء طرف أساسي ممن شاركنا الجهاد والقتال في الشام”(3). الجولاني عاد وأكد هذا التوجه القائم على رفض إقصاء بقية الفاعلين داخل الساحة, والحرص على مشاركة الجميع في عملية تدبير الشأن الشامي وتقرير شكل الدولة على عكس ما حدث في العراق بعد إعلان دولة العراق الإسلامية دون مشورة كبرى الجماعات الناشطة في الساحة العراقية آنذاك كالجيش الإسلامي في العراق و جماعة أنصار الإسلام, عاد وأكد هذا التوجه في لقاءه مع قناة الجزيرة عندما صرح في سياق جوبه عن سؤال حول شكل الدولة التي يسعون إلى إقامتها في الشام فقال بأن “جبهة النصرة لن تتفرد في قيادة المجتمع..”(3).
وجود فقه سياسي منضبط في أدبيات التيار الجهادي كان يمكن أن يجنب التيار الجهادي أزمته الراهنة, فمعظم أخطاء التيار القاتلة الآن نابعة من عدم وجود تصور واضح وصحيح لماهية الحكم الإسلامي والحكومة الراشدة, ودولة العراق والشام الإسلامية هي إفراز طبيعي ونتيجة متوقعة لوجود ثغرة هائلة في الخطاب الجهادي خصوصا على مستوى الفكر السياسي الذي يكاد يكون منعدما في المكتبة الجهادية. الحركة الجهادية قبل أن تتم عولمتها من قبل أسامة بن لادن نشأت أساسا كحالة رفض ومقاومة للأنظمة الاستبدادية “الطاغوتية” والسعي لاستبدالها بأنظمة إسلامية عادلة, لكن الذي حصل الآن أن نمط الحكم والدولة لدى الجهاديين لا يختلف كثيرا بل قد يكون أسوأ من نمط حكم الأنظمة “الطاغوتية”, انه إعادة إنتاج الحكم الاستبدادي بواجهة سلفية جهادية, وإعادة بعث للخطاب السلطاني الكسروي من جديد, ها هو البغدادي أمير الدولة الإسلامية في العراق في الشام رفض كل مبادرات الصلح والتنازل حتى تلك التي جاء من قادة وعلماء جهاديين مخضرمين, بل إن هؤلاء في عرف دولة البغدادي وشرعيوها كفار مرتدين(5), يجب قتلهم, وقامت بالفعل بتصفية بعضهم(6). فإذا كانت دولة الجهاديين لا تسع بعضهم رغم تطابق اجتهاداتهم فكيف تستوعب هذه الدولة اجتهادات مخالفيهم ممن لمن يؤمن يوما بتوجهاتهم, كما تم تصفية أبي منصور الأمريكي ورفاقه في الصومال لأن له ملاحظات تكتيكية وشرعية حول أداء حركة الشباب المجاهدين الحاكمة في الصومال.
يوجد مفكرون وعلماء موالون للتيار الجهادي وأطروحاته الصدامية لديهم الإمكانيات العلمية لسد الفجوة الفكرية على صعيد الفقه السياسي الإسلامي, لكن التيار الجهادي لم يستطع استيعاب هؤلاء وتقبل نقدهم واجتهاداتهم, لعل من أبرزهم الشيخ حامد العلي التي كان من أول الرافضين لمشروع دولة العراق الإسلامية وأفتى بعدم شرعيتها(7), الجهاديون بعد فتوى حامد العلي ضلوا في قطيعة معه ومع كتاباته وفتاويه رغم أنه كان قبل رأيه في دولة العراق الإسلامية من أهم منظريهم وفقهائهم.
لقد وجد الجهاديون أنفسهم بعد إنشاء دولتهم ” النموذج” يواجهون نفس الإشكالات التي كانوا يواجهونها مع الدولة الجبرية ” الطاغوتية”, فالدولة الإسلامية في العراق والشام رفضت معظم مبادرات التحاكم للشريعة, كل المعارضين لها يوصفون بالمرتدين أو الصحوات أو البغاة العصاة, من يبدي ملاحظات واجتهادات معارضة يصفى بحجة شق عصا الطاعة, أو يوضع في سجون رهيبة ويعذب حتى الموت(8)..كل هذا التخبط لا يمكن تفسيره إلا على أساس غياب الفقه السياسي الذي يفصل شكل الحكم الإسلامي المؤسسي وليس الحكم الارتجالي الفردي.
قد يكون أسامة بن لادن والرعيل الأول من الجهاديين معذورين عندما لم يؤصلوا لحركتهم الجهادية سياسيا, لأن هاجس أسامة بن لادن كان التأصيل لعملية الخروج والصدام ضد الأنظمة المحلية و النظام الدولي, ولم يدر في خلده أن مرحلة تأسيس دولة الجهاديين قد تطرح في المدى المنظور, فهو يرى قتال تنظيماته هو قتال نكاية وإنهاك وليس قتال تمكين ودولة, قبل أن يباغت بإعلان دولة العراق الإسلامية, مع أن أدبيات القاعدة الإستراتيجية لا ترى تأسيس الدولة الإسلامية إلا بعد تجاوز مرحلة انتقالية تمكينية صعبة يسميها الجهاديون مرحلة إدارة التوحش وهي ” المعبر لدولة الإسلام المنتظرة”(9)
تخبط في مفاهيم البيعة والإمارة
البيعة والإمارة من المفاهيم الأكثر حضورا في الإنتاج الفقهي للتيار الجهادي, وبقدر حضورها القوي شرحا وتأصيلا, بقدر ارتباط الكثير من الإشكالات التي تعصف بالخطاب الجهادي بهما. لقد حاول بعض منظري التيار الجهادي ضبط المفهومين ووضع الحدود لهما وتأصيلهما شرعيا وتنزيلهما على أرض الواقع, لكن رغم مجهودهم المبكر في هذا الصدد إلا أنه برزت مجموعة من الاجتهادات الأخرى التي أدت إلى التخبط في فهم وتصور هذين المفهومين وبالتالي انعكاس هذا التخبط على أرض الواقع. فمن أبرز ما يشغل الجهاديين في الوقت الراهن هو هل بيعة أبو بكر البغدادي بيعة خاصة مؤقتة أم بيعة عامة واجبة, و هل إمارته إمارة عامة أم إمارة حرب وقتال فقط. وهل أبو بكر البغدادي مبايع لأيمن الظواهري, وهل الملا عمر ولايته عامة على الجميع..هذه الضبابية في فهم وتنزيل مفاهيم البيعة الإمارة هي التي جرت التيار الجهادي إلى الاقتتال الداخلي في سوريا والعراق, فالدولة الإسلامية في العراق والشام قاتلت جبهة النصرة لأنها نقضت البيعة و شقت عصا الطاعة وخرجت عن طاعة الإمام, وجبهة النصرة اعتبرت بيعتها لأبي بكر البغدادي بيعة خاصة على الحرب والقتال وأن البغدادي أمير جماعة غير ممكن وإمارته إمارة جماعة وليست إمارة دولة. الدولة الإسلامية قاتلت الفصائل الجهادية في العراق وسوريا لأنها فصائل باغية ترفض الدخول في طاعة إمام ممكن ذو شوكة, والفصائل الجهادية الأخرى اعتبرت الدولة الإسلامية في العراق والشام فصيلا مقاتلا يجري عليه ما يجري على بقية الفصائل الأخرى. من هنا بدأ الخلاف والاقتتال.
هذه الثغرة في الخطاب الفقهي للتيار الجهادي انتبه لها مبكرا أبو مصعب السوري (عمر عبد الحكيم) فقال عن الأخطاء والثغرات داخل التيار الجهادي :” عدم القدرة على تحديد المضمون الشرعي لعدد من المفاهيم الأساسية: الجماعة المجاهدة..الإمارة والشورى والقرارات..البيعة والسمع والطاعة”(10). وأضاف تحت عنوان البيعة والسمع والطاعة:” ما هي طبيعة هذه البيعة ؟ وما فحوى عقدها ؟ وبالتالي الحقوق و الواجبات المتبادلة بين الأمير والفرد أو بين الفرد والجماعة ؟ وكيف تنحل وبناء على ماذا ؟ وماذا يترتب على نقضها ؟ ومتى يكون مشروعا ومتى يحرم إلى آخر تلك المسائل التي لم يتم تحديدها في التيار الجهادي بدقة, واختلفت من تنظيم لآخر, وفي حين اعتبر أكثر الجهاديين في مناهجهم أن جماعتهم هي جماعة من جماعات المسلمين وأنها إمارة جهاد وأن البيعة محدودة بتلك الواجبات إلا أن واقع الحال جعل بعض تلك الجماعات تتصرف عمليا كأنها جماعة المسلمين في قطرها, وصرح بعض أكابر التيار الجهادي بأن جماعتهم هي الجماعة الشرعية الوحيدة في البلد الفلاني, وبالتالي قاوموا بشتى السبل ميلاد جماعات أخرى أو استمرار وجود سابقات عليها, بل ذهب البعض إلى السعي لاستخلاص فتاوى تبيح للجماعة الجهادية توحيد صف الجهاد بالقوة والعنف لتصفية وجود جماعات أخرى, ووجد بعض الشواذ الذين يفتون بذلك ضمن ما لحق بالتيار الجهادي من بعض طلاب العلم ممن تصدروا للفتوى في التيار الجهادي نتيجة غيبة العلماء عنه كما اتخذت بعض الجماعات سجونا وعقوبات ومحاكم تنظيمية دونما تحديد لتلك الحدود والصلاحيات”(11).
هذه الأخطاء التي أشار إليها أبو مصعب السوري هي التي عاد إلى ارتكابها بعض المنتسبين إلى التيار الجهادي فقد انتشرت كتيبات تدعوا إلى بيعة أبو بكر البغدادي بيعة الإمام الأعظم وترى بطلان كل الجماعات والبيعات والأخرى مثل ما جاء في كتاب ” بيعة الأمصار للإمام المختار” الصادر عن اللجنة الشرعية لأنصار الشريعة بتونس حيث يقول صاحبه :” لذلك فكل بيعة أحدثت في شمال جزيرة العرب بعد هذه البيعة – أي بيعة دولة العراق الإسلامية – هي بيعة باطلة من كل وجه ومن هذه البيعات الباطلة بيعة جبهة النصرة وبيان بطلانها من أوجه كثيرة منها أن هذه البيعة أحدثت مع وجود بيعة عامة سابقة لها وقد قال صلى الله عليه وسلم ” إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما ” فدل على أنها فاسدة قولا واحدا وهذا مذهب الجمهور” ويضيف في سياق تأكيده على وجوب بيعة البغدادي وحرمة وجود أي جماعة خارجة عن طاعته: ” وكل من بايع لجبهة فبيعته فاسدة ولا بيعة له ولا عليه والواجب على أفراد الجبهة أن يتوبوا إلى الله و أن يعاودوا البيعة للدولة الإسلامية في العراق والشام, وليس هذا خاصا بهم بل وسائر الكتائب والفصائل المقاتلة في الشام الواجب عليهم بيعة الدولة فلا بيعة لهم شرعا إن لم يبايعوا الدولة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:” ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية”.(12)
هذه الفتاوى وغيرها الكثير هي التي تسوغ ما يحدث في سوريا من اقتتال بين الجهاديين انه إعادة إنتاج للفقه السلطاني الذي قام عليه بنيان الاستبداد, حيث وجوب طاعة الإمام المتغلب, والشورى مستحبة للإمام إذا شاء, والإمامة تنعقد ببيعة الواحد من الناس.(13) وجود بياضات وفراغات في الخطاب الجهادي خصوصا على مستوى الفقه السياسي وما يرتبط به من مفاهيم البيعة والشورى والإمامة هي التي أعطت المساحة لمثل هذه المقولات كي تنفد إلى دوائر صنع القرار الجهادي, ومن تم المساهمة في صياغة فعل جهادي شاذ يرى العصمة لنفسه والضلال الانحراف لغيره.
إهمال البعد التربوي
مقارنة مع المدارس الإسلامية الأخرى تبدوا المدرسة الجهادية من أكثر المدارس إهمالا للجانب التربوي من التكوين والبناء للفرد الجهادي, فقد كان مبدأها الأساس دائما هو ” أسلم ثم قاتل”. غياب البرنامج التربوي في الأجندة الجهادية أسفر عن بروز حالات جهادية منحرفة تعزى أساسا إلى الجفاف التربوي الذي يعيشه الفرد المقاتل. فالتيار الجهادي يحرص غالبا على تعليم أفراده في معسكرات التدريب قبل النفير للجبهات أساليب وفنون القتال و ما يدخل ضمنها من علوم إدارية وتقنية بحتة, وعلى الصعيد الشرعي يتم تلقين الملتحقين الجدد دورات في العقيدة وبعض الأحكام المرتبطة بالقتال فقط, أما علوم التزكية و الأخلاق فمنعدمة في برامجهم التكوينية وبالتالي فكثير من الفظاعات التي تنسب إلى التيار الجهادي ربما ترتكب بسبب عامل غياب التربية والتزكية, لذلك غالبا ما تفسرها الفصائل الجهادية وتنسبها في بياناتها للأخطاء الفردية, مثل حادثة الهجوم على مستشفى العرضي بصنعاء, عندما أقدم مقاتل شارد على الدخول إلى مستشفى مجمع وزارة الدفاع فأجهز فيه على النساء والجرحى(14). وهي الحادثة التي اعتذرت عنها القاعدة فيما بعد.
هذا الإخفاق والقصور التربوي للتيار الجهادي لمسه المنظر الجهادي أبو مصعب السوري أثناء تقييمه لحصيلة انجازات وأخطاء التيار الجهادي فقال في سياق سرده لأخطاء التجربة الجهادية :” انخفاض مستويات التربية العبادية والسلوكية والأخلاقية في كثير من المتأخرين ممن لحقوا بالجهاد من الشباب, وبسبب عدم وجود برامج للتربية ظهرت ظواهر مؤسفة في بعض التجمعات الجهادية..و اقتصار مناهج التربية و الإعداد في الجبهات والميادين المفتوحة مثل أفغانستان في المرحلتين على برامج التدريب العسكري شبه المحض حيث غابت برامج الإعداد العلمي الشرعي والتوجيه السياسي والتأهيل الفكري والتربية السلوكية عن تلك المناهج..وساهمت تلك الطريقة ومن أشرف عليها بزراعة الجهل وتخريج عينات لا تنتمي للتيار الجهادي الذي عرفناه قبل عقدين من الزمن, إلا بالعاطفة والحماس والإخلاص الذي تذهب تلك العلل بمعظم نتائج فضائله هذه.”(15) إذن فانعدام برامج للتربية والتزكية حول أفراد وعناصر التيار الجهادية إلى آلات للقتل و القتال, يحدث أن تخرج عن سكتها فتمارسه خارج مضمارها.
غياب النقد الذاتي
يغلب على كتابات الجهاديين التي تتناول مسيرتهم وتاريخهم الطابع الملحمي التمجيدي, ومن النادر أن تقف على وثيقة أو محاضرة جهادية تعرض تاريخ الحركة الجهادية بنفس نقدي, بإفراز أخطائها ومكامن القصور فيها, وثغراتها الفكرية و البنيوية. هذا التقصير في القراءة النقدية للتيار الجهادي خلق حالة تراكمية من الأخطاء والتجارب الفاشلة تقدم على أنها ملاحم وبطولات, وبالتالي إمكانية إعادة إنتاجها في أية لحظة. فمثلا يقر أكابر التيار الجهادي في مراسلاتهم الداخلية(16) على أن التجربة الجهادية في العراق اعترتها أخطاء كثيرة وبأن من عوامل خمود المقاومة وضعفها هو تصرفات الجهاديين هناك. لكن لا أحد من هؤلاء الرموز تجرأ على البوح بتلك الأخطاء وإبرازها وبيانها في كتاب أو محاضرة, ونتيجة ذلك أن تجربة العراق يعاد إنتاجها في المشهد السوري بتفاصيلها الدقيقة.
يعتبر أبو مصعب السوري( عمر عبد الحكيم ) الوحيد الذي أعاد قراءة المسيرة الجهادية قراءة نقدية, ساردا أخطاءها الفكرية والفقهية والسياسية والتنظيمية والإستراتيجية, ولم يتردد في تحميل المسؤولية لأكبر الرموز الجهادية في فشل بعض التجارب في الوطن العربي(17). أبو مصعب السوري خصص حيزا كبيرا من كتاباته ومحاضراته لتقييم منجزات التيار الجهادي مند نشأته إلى أواسط العقد الماضي, فقد خصص للثورة السورية الأولى كتابا من مئات الصفحات بعنوان ” الثورة الإسلامية الجهادية في سوريا” سرد فيه أخطاء الطليعة المقاتلة وأسباب فشل الثورة على حافظ الأسد. بعد التجربة الجهادية في الجزائر التي واكبها إعلاميا أصدر كتابه ” مختصر شهادتي على الجهاد في الجزائر” تناول فيه عوامل ومظاهر انحراف الجماعة الإسلامية المسلحة التي عرفت بتاريخها الدموي هناك. وأخيرا بعد الاحتلال الأمريكي لأفغانستان عكف على تقييم وتقويم حصيلة وأداء التيار الجهادي مند نشأته في ستينيات القرن الماضي في كتاب “دعوة المقاومة الإسلامية العالمية” يقع في 1600.
الجهاديون لا يملكون جرأة نقد وتخطئة حركتهم إلا قليل منهم لكن في الآونة الأخيرة, نشط العديد من الكتاب الجهاديين المشهورين في نقد كيانات وشخصيات جهادية. وفتحت حسابات على مواقع التواصل الجهادي لهذا الغرض بعدما أقفلت المواقع والمنتديات الجهادية في وجههم.
مآلات الخطاب الجهادي
التيار الجهادي اليوم يمر بمرحة فاصلة في تاريخه, وتعاني بنيته التنظيمية والإيديولوجية من تصدعات عميقة. هذه التصدعات قد تسفر عن تيارين جهاديين, الأول يمثل امتداد لمدرسة الأفغان العرب الجهادية (عبد الله عزام, أسامة بن لادن, أيمن الظواهري, أبو مصعب السوري). والتيار الثاني سيبقى وفيا للمدرسة الجهادية في العراقية الأكثر تشددا وراديكالية وتمثلها دولة العراق والشام الإسلامية. لكن الكثير من شيوخ وقادة التيار الجهادي المخضرمين يعتبرون الدولة الإسلامية في العراق والشام حالة جهادية شاذة وهم بصدد سحب الشرعية عنها من خلال عدد من البيانات والتصريحات والفتاوى لعل أهمها بيان تنظيم القاعدة الذي نفى فيه أي علاقة له مع الدولة الإسلامية في العراق والشام و فتوى أبو قتادة الفلسطيني التي تقضي بحرمة الانتساب إلى دولة العراق والشام الإسلامية والانتقادات المتكررة من أبي محمد المقدسي لها ولبعض مواقف قادتها وغيرهم من الشيوخ والدعاة والكتاب الذين سجلوا اعتراضاتهم على مشروع الدولة الإسلامية في العراق الشام.
إذا استطاع التيار الجهادي الأصيل تجاوز الأزمة التي تمثلها دولة العراق والشام الإسلامية وإنهاء حالة التشرذم التي يعيشها التيار وأعاد اللحمة والتماسك من جديد بين مختلف الفرقاء الجهاديين وقدم نموذج حكم وإدارة وتنظيم يستوعب الجميع فانه بلا شك سينجح في إعادة الاعتبار للخطاب الجهادي. وسوريا ستكون محك تجربة للحركة الجهادية, وأما إذا استمر قطاع منه في أعماله غير المسئولة كاختطاف الصحفيين واستهداف المعارضين والسجن والتعذيب وقطع الأيدي في الساحات العامة وفرض الجزية على الناس فلا غرابة إن كانت سوريا آخر عهد للتيار الجهادي بالوجود.
1- أبو محمد المقدسي هذه عقيدتنا ص:5
2- كلمة أبو خالد السوري حول الأحداث في الشام 14-01- 2014 http://www.youtube.com/watch?v=zdqkb4iHHc0
3- موقف أبو محمد الجولاني من إعلان الدولة الإسلامية في العراق والشام 10-04-2013 http://www.youtube.com/watch?v=_eB3AfI3hgA
4- برنامج لقاء اليوم مع أبي محمد الجولاني 19-12-2013 http://www.youtube.com/watch?v=DIr1HoHJlQA
5- أبو مصعب التونسي وأبو محمد التونسي شرعيا الدولة الإسلامية في العراق والشام في سوريا يكفران الطالبان وأيمن الظواهري http://www.youtube.com/watch?v=cAm3kBmF5yw
6- الدولة قامت بتصفية أبي خالد السوري رفيق أسامة بن لادن, واستهدفت قادت في أنصار الإسلام في العراق وغيرها من الجماعات انظر شهادة أبو ذر العراقي أحد أمراء الدولة الإسلامية 7-03-2014 http://www.youtube.com/watch?v=FlcFh3Lh4aY
7- انظر نص فتوى الشيخ حامد العلي 4-04-2007 http://www.h-alali.net/f_open.php?id=1a55240a-3422-102a-9c4c-0010dc91cf69
8- مثال حالة تعذيب الطبيب حسين سليمان أبو ريان, أنظر الرابط: http://www.syrianmediacenter.com/%E2%80%AB%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%B4-%D8%AA%D8%B3%D9%84%D9%85-%D8%AC%D8%AB%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D8%A8/
9- أبو بكر ناجي إدارة التوحش ص: 5
10- أبو مصعب السوري دعوة المقاومة الإسلامية العالمية ص: 850
11- أبو مصعب السوري دعوة المقاومة الإسلامية ص: 850
12- أبو جعفر الحطاب بيعة الأمصار للإمام المختار ص: 31
13- أبو همام الأثري مد الأيادي لبيعة البغدادي ص: 12 وانظر كتاب أبي الحسن الأزدي موجبات الانضمام للدولة الإسلامية في العراق والشام ص: 25
14- شاهد لقطات الهجوم على مستشفى العرضي 05-12-2013 http://www.youtube.com/watch?v=vMMRTlcRwwA
15- أبو مصعب السوري دعوة المقاومة الإسلامية العالمية ص:859
16- انظر رسالة القائد ادم يحيى غدن عزام الأمريكي ضمن رسائل أسامة بن لادن المصادرة في بيته بعد عملية اغتياله بأبوت أباد http://s3.amazonaws.com/CTCReports/Arabic.zip
17- فمثلا حمل مسؤلية انحراف الجماعة الإسلامية بالجزائر في التسعينيات للشيخ أبي قتادة الفلسطيني انظر كتاب: مختصر شهادتي على الجهاد في الجزائر لأبي مصعب السوري
فيسبوك
https://www.facebook.com/ISLAMREVOLU