عبد الغني مزوز—
المقال منشور في موقع المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
لتحميلة بصيغة PDF
منذ بيانها الأول في 24 /01/2012 وجبهة النصرة تحاول رسم مسار جهادي مغاير للذي سلكته نظيراتها من الجماعات الجهادية، حيت راهنت على العمق الشعبي والفاعلية الميدانية ومرونة المواقف، والتركيز على إسقاط النظام السوري وتفكيك مؤسساته كأفق ثوري تتقاسمه مع كل القوى الثورية دون الانخراط في صراع عالمي يحرج الثورة ويضعها في مرمى الاستهداف.
في 9/04/2013 تغيرت مؤقتا أولويات جبهة النصرة عندما أعلن أبو بكر البغدادي ضم النصرة إلى “دولة العراق الإسلامية” وتشكيل “الدولة الإسلامية في العراق والشام” إذ سارع أبو محمد الجولاني إلى إعلان بيعته لتنظيم القاعدة سعيا منه لإيقاف نزيف الجبهة ومنع تسرب الكوادر الجهادية إلى معسكر تنظيم الدولة الإسلامية. نجح الجولاني في غضون شهور قليلة في إعادة تأسيس جبهة النصرة وترتيب بيتها الداخلي، مستعينا بخبرته الجهادية وما تتيحه مظلة القاعدة من رصيد معنوي جعلت جهاديين كُثر يلتفون حوله، فأصبحت النصرة من جديد رقما صعبا في معادلة الثورة السورية.
شاركت جبهة النصرة في معظم المعارك الكبيرة التي شهدتها الثورة السورية، وأجمع المراقبون على فاعليتها ومحورية أدوارها واستماتة جنودها في القتال، كما أن اعتمادها على أساليب وتكتيكات عسكرية فريدة ساعدت في حسم كثير من المواجهات لصالح الثوار وإحداث اختراق نوعي في الحالة العسكرية للثورة السورية مثل: التمهيد بالآليات المفخخة والسيارات المسيرة عن بعد والانغماس في عمق تحصينات ومواقع النظام.
وفي 28/03/2015 تمكنت جبهة النصرة بمعية فصائل جيش الفتح الذي أسسه وقاده القيادي في جبهة النصرة أبو عمر سراقب من السيطرة على مدينة إدلب كثاني مركز مدينة يخرج عن سيطرة النظام بعد مدينة الرقة.
الهيئة وهواجس التصنيف
تصاعدت الأصوات التي تُطالب بفك جبهة النصرة ارتباطها بتنظيم القاعدة، حيت اتخذته فصائل عدة ذريعة لرفض التحالف معها، كما اشتد ضغط القوى الدولية والإقليمية على الفصائل العسكرية من أجل إرغامها على إعلان مواقفها الرافضة لجبهة النصرة كفرع للقاعدة في سوريا، والكف عن التنسيق معها في الجبهات.
وعلى إثر الانتكاسات المتكررة لقوات المعارضة في مدينة حلب وتشرذم تشكيلاتها العسكرية، وفشل غرف العمليات المشتركة في إدارة المعارك خرجت مظاهرات حاشدة في المناطق المحررة تطالب الفصائل الثورية بالتوحد والاندماج. لم تستجب كبرى الفصائل لنداءات المتظاهرين ومطالب الشرعيين الذين طرحوا مبادرة لتوحيد كل القوى الثورية في كيان واحد بذريعة أن جبهة النصرة مصنفة على قائمة الجماعات الإرهابية، وأن التوحد معها يعني استهداف الثورة وحرمانها من الدعم الخارجي.
وفي 1/06/2016 أعلنت وزارة الخارجية الروسية عن التوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة لتنسيق جهودهما العسكرية ضد مواقع جبهة النصرة، وبناء على ذلك حث التحالف الدولي قوات المعارضة على الابتعاد عن أماكن تواجد الجبهة حتى لا يشملها القصف والاستهداف. إزاء هذه التطورات لم يكن لدى الجولاني خيار آخر غير فك ارتباط جماعته بتنظيم القاعدة مؤكدا في خطاب إعلان جبهة فتح الشام في 28/07/2016 أن قراره جاء: “نزولاً لرغبة أهل الشام ولدفع الذرائع الدولية حول استهداف الأماكن السكنية، بحجة استهداف جبهة النصرة”.
تداعيات إعلان جبهة فتح الشام كفصيل ثوري محلي غير مرتبط بالقاعدة لم تصنع فارقا يُذكر في المشهد الثوري في سوريا، حيت استمرت حالة التشظي والانقسام في صفوف قوات المعارضة، وتراجعت الفصائل المسلحة عن وعودها بالاندماج مع جبهة النصرة في جسم ثوري موحد لو قطعت علاقتها بالقاعدة، وأصرت الولايات المتحدة على لسان الناطق باسم البيت الأبيض جوش ارنست على إبقاء جبهة فتح الشام على قائمة المنظمات الإرهابية، ثم جاء بيان مايكل راتني مبعوث الولايات المتحدة الخاص إلى سوريا ليؤكد بتفصيل أكثر موقف بلاده من جبهة فتح الشام، بينما تواصل، موازاة مع ذلك، انحسار المناطق المحررة وخسارة الثوار لمزيد من المواقع الإستراتيجية مع التقدم والواسع لقوات النظام في كثير من الجبهات، كما تصاعدت وتيرة الاستهداف الدولي لجبهة فتح الشام لتبلغ ذروتها في 20/01/2017 عندما استهدفت الولايات المتحدة معسكر انتساب تابع للجبهة أسفر عن سقوط أكثر من 100 قتيل من عناصرها.
تزامنا مع المباحثات المنعقدة في العاصمة الكازاخية “أستانا” بين أطياف من المعارضة السورية ونظام الأسد برعاية روسية في 23/01/2017 شهدت الثورة السورية منعطفا حاسما تمثل في قيام جبهة فتح الشام بالهجوم على مواقع عدد من الفصائل الصغيرة في الشمال المحرر، وإرغامها على حل نفسها أو الانضمام إلى حركة أحرار الشام، بعد أن اتهمتها الجبهة بالتوقيع على اتفاقيات لعزلها وقتالها1.
أسفر التحرك العسكري المباغت لفتح الشام عن تغيير دراماتيكي في خريطة القوى الثورية، إذ فرضت الجبهة نفسها كقوة عسكرية ضاربة ذات سلطة ونفوذ في سياق ما اعتبرته إجراءات ملحة” لتصحيح مسار الثورة” عبر تفكيك الفصائل التي تعاطت بإيجابية مع مقترحات الحل السياسي للأزمة، كمقدمة لإعادة إنتاج النظام وتجريم فصائل الثورة الفاعلة كما جاء في بيانها الصادر في 24/01/2017 وطرحت من جديد مشروع التوحد والاندماج في كيان ثوري موحد.
في 28/01/2017 أعلنت كل من جبهة فتح الشام وحركة نور الدين زنكي وجبهة أنصار الدين ولواء الحق عن تشكيل “هيئة تحرير الشام” وأسندوا مهمة قيادتها إلى المهندس “هاشم الشيخ” القائد السابق لحركة أحرار الشام الإسلامية الذي انشق عن الحركة وشكل “جيش الأحرار” مع قادة عسكريين آخرين أبرزهم “أبوصالح الطحان” بعد رفضهم تعيين “علي العمر” قائدا عاما للحركة، ثم التحقوا بهيئة تحرير الشام فور الإعلان عن تأسيسها.
وفيما يبدو أن الفصيل الجديد قد قطع بشكل واضح مع موروث القاعدة، وتبنى خطاباً تحتل فيه مفاهيم الثورة مكانة بارزة إلا أن ردود الفعل الدولية من القوى الكبرى ومن خصوم “جبهة فتح الشام” داخليا ظلت على حالها، فلا تزال هيئة تحرير الشام حسب تصريحاتهم مجرد واجهة يتخفى خلفها تنظيم القاعدة ويحاول عبرها فرض سيطرته على المناطق المحررة، مع أن الثابت من خلال الشهادات المنشورة عقب الإعلان عن “الهيئة” أن المحسوبين على تنظيم القاعدة الذين لم يوافقوا على صيغة الكيان الجديد وبالطريقة التي تم بها الإعلان عنه؛ قد خرجوا من جبهة فتح الشام وجددوا بيعتهم لأيمن الظواهري أمير تنظيم القاعدة وكان من أبرزهم أبو خديجة وأبو جليبيب الأردنيان، وأفراد آخرين فضلوا الانزواء بعيدا عن الأضواء وعدم تشكيل أي فصيل أو تجمع عسكري.
وقد أصدر المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا مايكل راتني بيانا في 10/03/2017 اعتبر فيه هيئة تحرير الشام منظمة إرهابية، متوعدا باستهدافها هي وكل المجموعات المتحالفة معها. اللافت أن راتني استخدم لغته بعيدة عن لغة الدبلوماسيين عززها بمصطلحات ومفاهيم شرعية اعتاد بعض الشرعيين إطلاقها وهم يردون على أطروحات ومواقف جبهة فتح الشام وهيئة تحرير الشام مثل: البيعة؛ التغلب؛ التقية؛ التكفير وغيرها. هذه اللغة سجلت حضورها أيضا في بيان لاحق أصدره مايكل راتني في 2/08/2017 تعليقا على سيطرة قوات هيئة تحرير الشام على معظم المناطق المحررة بعد معارك خاضتها مع حركة أحرار الشام الإسلامية.
وقد أسفرت المعارك المحدودة التي نشبت بين حركة أحرار الشام و هيئة تحرير الشام في 17/07/2017 على خلفية اتهام هذه الأخيرة للأحرار بإيواء قتلة عناصرها المحسوبين على “صقور الشام” الفصيل الصغير الذي أعلن في وقت سابق انضمامه إلى أحرار الشام؛ أسفرت هذه المعارك عن صعود هيئة تحرير الشام كأكبر فصيل ثوري في سوريا وتراجع قوة “الأحرار” بشكل كبير، وفيما كان البعض يعتقد أن الهيئة ستقوم بتفكيك الحركة نهائيا خصوصا وأن معظم قياداتها غادرت إلى تركيا وانضمت ألويتها الكبيرة إلى هيئة تحرير الشام فإن هذه الأخيرة اختارت الإبقاء على الفصيل وأصدرت تعميما إلى مقاتليها تحذرهم فيه من التعرض لأفراده أو تجريدهم من سلاحهم.
وجدت مدينة إدلب في الشمال السوري نفسها في قلب العاصفة عندما تصاعدت أصوات محلية ودولية تتوعدها بالتدمير على غرار ما حدث في مدينة الموصل العراقية في حالة ما إذا بقيت تحت سيطرة الهيئة، وبدا واضحا أن هناك توجهاً دولياً جاداً من القوى الكبرى المؤثرة لضرب المدينة بعد الانتهاء من معارك الرقة ودير الزور، وتسوية أوضاع الغوطة الشرقية بعد توافق فصائلها الكبرى على صيغة مبدئية للحل السياسي تبدأ بمشروع المصالحة ولا يُعرف بالضبط أين ستنتهي.
حاولت هيئة تحرير الشام خلال الفترة الماضية بلورة رؤيتها الخاصة لواقع ومآل المشهد الثوري في سوريا، وأعادت قراءته في ظل ما استجد من معطيات وأحداث لعل من أبرزها: مصير الشمال المحرر إزاء نوايا القوى الكبرى باستهدافه؛ الموقف من التدخل التركي لو دخل حيز التنفيذ؛ الموقف من مناطق خفض التصعيد والهدن والمصالحات التي أبرمتها بعض الفصائل مع نظام بشار الأسد. وبما أن الهيئة باتت تمسك بزمام المبادرة العسكرية في المناطق المحررة ومحاور الاشتباك مع قوات النظام خصوصا في الشمال السوري فإن على كاهلها تقع مسؤولية تدبير الجهد الثوري وإدارة المساحات المحررة.
لو نظرنا إلى الخيارات المتاحة أمام الهيئة في سياق العداء الدولي لها فسنجدها خيارات محدودة، وهوامش المناورة المتاحة أمامها ضيقة ومنحسرة كجسم جهادي ثوري لا يستطيع الذهاب بعيدا في مسار “الاعتدال” بالمفهوم الأمريكي، ولا التفريط في هويته الجهادية التي مازال الرافد السلفي الجهادي ركنا من أركانها والجهاديون العقائديون قاعدته الصلبة.
الخيار الأول: تفعيل الإدارة المدنية الموسعة
يشكل إدارة المناطق المحررة وتأمين الحاجيات الأساسية للسكان تحديا صعبا للفصائل الثورية، مع ما يستتبعه ذلك من ضبط للأمن وصيانة للمرافق الحيوية كمحطات الكهرباء والمياه والمشافي وتوفير مستلزماتها وإقامة المحاكم الشرعية وفض النزاعات وغيرها، هذا المجهود كله كان يقع على عاتق الفصائل العسكرية وغالبا ما تشوبه بعض التجاوزات تتعلق بالشطط في استعمال القوة وتربح بعض قادة الفصائل عبر فرض غرامات تعسفية في الحواجز مقابل مرور السلع والبضائع، أو التلاعب بمواد الإغاثة والمتاجرة بها.
وقد طرحت هيئة تحرير الشام في 23/07/2017 مبادرة تقضي باعتماد إدارة مدنية شاملة وموسعة للمناطق المحررة، التوجه الجديد للهيئة جاءلتحقيق ثلاثة أهداف أساسية:
الأول: تفويت الفرصة على القوى الكبرى وحرمانها من مبرر استهداف المناطق المحررة ومدينة إدلب تحديدا.
الثاني: تحسين وتطوير الأداء الإداري في المناطق المحررة من خلال إشراك الأهالي في تدبير شؤونهم بعيدا عن المحاصصة الفصائلية.
الثالث: تركيز القوى الثورية المقاتلة على الجبهات ومحاور القتال وترك المهام الإدارية للمدنيين والمجالس المحلية.
وخلال الأسابيع الماضية نشط مسؤولو هيئة تحرير الشام في الدعاية لمشروع الإدارة المدنية وبعثوا رسائل ودعوات إلى عدد من وجهاء الثورة وقادتها ونشطائها من أجل شرح الفكرة وحثهم على دعمها والمشاركة فيها. ورغم أن الغموض مازال يلف تفاصيل المشروع والمداولات بشأنه مستمرة حتى اللحظة إلا أن ما تسرب من معلومات عنه يشير إلى أن خطوطه العريضة تتمثل في خروج الفصائل من المدن باستثناء بعض المجموعات من الجيش الحر، وتشكيل مجالس محلية بصلاحية واسعة تُناط بها مسؤولية إدارة المناطق المحررة ووضع قوة تنفيذية رهن إشارتها، والحرص على إشراك كافة فرقاء الثورة في المهمة وإن تباينت توجهاتهم وخلفياتهم الفكرية، وتحدث بعض المطلعين على دوائر صنع القرار بهيئة تحرير الشام أن الإبقاء على حركة أحرار الشام الإسلامية مع إمكانية تفكيكها بأقل الخسائر كان بهدف ضمها إلى مشروع الإدارة المدنية الموسعة.
لا يُخفي قادة في هيئة تحرير الشام أن “الإدارة المدنية” المزمع اعتمادها في الشمال المحرر، تنطوي على مغامرة لا يمكن التكهن بتداعياتها ومآلاتها، لكنها تظل خيارا عقلانيا في ظل إصرار القوى الدولية على إدراج الهيئة على قائمة المنظمات الإرهابية والإعداد لضرب مواقعها ومعاقلها في قادم الأيام.
ورغم المرونة التي تحلت بها قيادة الهيئة وهي تطرح مشروعا بهذه الجرأة، إلا أنها على يقين بأنه لن يكون محل ترحيب من المجتمع الدولي وقواه الفاعلة، لكنها تراهن على كسب بعض المواقف لصالحها خصوصا الموقف التركي الذي بدا متفهما للواقع الجديد في الضفة الأخرى لمعبر باب الهوى.
التحدي الأبرز لقيادة هيئة تحرير الشام يكمن في إقناع نواتها الجهادية الصلبة بمشروعية فكرة “الإدارة المدنية”وتقديم الضمانات الواقعية الكفيلة بطمأنتها، وهي المهمة التي تقع على عاتق أبي محمد الجولاني شخصيا فهو القادر على التأثير على هذا المكون المهم داخل الهيئة. وبالتالي فالمبادرة يحفها التعقيد والحساسية، وتستلزم قدرا كبير من الذكاء والجرأة لأنها تثير مكامن التناقض عند فرقاء الثورة، كما أن سوء تنزيلها على أرض الواقع أو وضع العراقيل أمامها -كعادة الثورات المضادة-سيفتح الباب على مصراعيه أمام الفوضى والاضطراب.
لو نجح مشروع الإدارة المدنية للمناطق المحررة فربما يكون أرضية مناسبة لمزيد من التوافق بين مكونات الثورة، وقد تنتهي معه المخرجات السلبية للمحاصصة الفصائلية؛ من تنافس على النفوذ وتقطيع لأوصال المناطق المحررة بالحواجز العسكرية، كما أن اعتماد منظومة قضائية موحدة وجهاز تنفيذي واحدسيقطع بشكل نهائي مع حالة الفوضى التي طبعت مرحلة تعدد المحاكم بتعدد الفصائل.
هذا مع ما سيُحسب للتيار الجهادي من مرونة في الخطاب وديناميكية في الفعل والممارسة، ولم تكن هذه تجربته الأولى فقد سبق لتنظيم القاعدة بعد سيطرته على مدينة المكلا اليمنية أن اعتمد نمطا من الإدارة المدنية عبر المجالس الأهلية التي كلفها بإدارة شؤون المدينة.
الخيار الثاني: العودة إلى حرب العصابات
بعد خروج قوات المعارضة المسلحة من مدينة حلب، إثر انتهاج النظام السوري وحليفه الروسي سياسة الأرض المحروقة، وعجز المعارضة عن الصمود أمام تقدم قوات الأسد المدعومة بميلشيات حزب الله وفيلق القدس الإيراني، طرحت بعض الأصوات الثورية والجهادية فكرة تبني إستراتيجية جديدة ترتكز على مبادئ حرب العصابات، كأسلوب حربي يُتيح استنزاف الخصم بأدنى الإمكانيات وأقل الخسائر. الفكرة قابلتها بعض الفصائل والشخصيات الثورية المحسوبة على خط الاعتدال برفض صريح لأنها تعني –بالنسبة إليها- تحويل ثورة شعبية ممتدة على صعيد الجغرافيا وتحظى بتعاطف دولي واسع إلى مجموعات مقاتلة تلوذ بالجبال والكهوف2. بينما دافعت عن الفكرة فصائل وشخصيات جهادية أخرى واعتبرتها خيارا معقولا في ظل التفوق العسكري الضخم لمعسكر النظام وحلفائه3.
لا شك أن الفصائل الثورية المحسوبة على التيار الجهادي ترى في حرب العصابات أنجع أسلوب لإدارة الحروب والصراعات في ظل هيمنة النظام العالمي الجديد، ويعتبر المنظر الجهادي المعروف عمر عبد الحكيم (أبو مصعب السوري) أبرز من دعا إلى هذا الأسلوب وخصص له حيزا كبيرا في موسوعته المنشورة تحت عنوان “دعوة المقاومة الإسلامية العالمية”4.
وتمرس الجهاديون على هذا النوع من الحروب ووظفوا تقنياته سواء ضد الأنظمة الحاكمة أو ضد التدخلات الأجنبية في العراق وأفغانستان والصومال ومالي وغيرها، ومع تراجع الأداء الثوري المسلح المستند إلى استراتيجية المواجهة المباشرة والاحتفاظ بالأرض والجبهات الثابتة والمواقع المكشوفة، أصبح استدعاء مبادئ حرب العصابات خيارا حتميا قد يحفظ للثورات بعضا من زخمها كما يعتقد الجهاديون.
ربما لم تكن مبادرة “الإدارة المدنية للمناطق المحررة” التي اقترحتها هيئة تحرير الشام سوى إجراء أخير قبل تبني إستراتيجية حروب العصابات، فتكليف المجالس المحلية بمهمة تدبير الشأن العام وحصر دور الفصائل في المعارك والقتال، وتكثيف الهيئة مؤخرا لعلمياتها الأمنية في قلب مناطق النظام أو العمل “خلف خطوط العدو” كما تذكر في بياناتها، كل ذلك يؤشر على أن الثورة على مشارف منعطف جديد، قد يكون نمط حرب العصابات سمته البارزة. فمن بديهيات حرب العصابات الحركة الدائمة والانحياز المستمر، وتجنب المواقع المكشوفة أو الظهور العلني، والعمل ضمن مجموعات صغيرة عتادها بسيط لا يعرقل سرعة المناورة ويصعُب رصده وتعقبه، وبالتالي فليس من مهمة رجال حرب العصابات إدارة المدن ورعاية شؤون الناس وفض نزاعاتهم وتأمين حاجياتهم.
وقد نفذت هيئة تحرير الشام منذ تأسيسها عشرات العمليات العسكرية والأمنية ضد نظام الأسد وحلفائه واحدة منها فقط لا يمكن اعتبارها تكتيكا من تكتيكات حروب العصابات وهي العملية التي أعلنت عنها في 21/03/2017 تحت اسم “وقل اعملوا” وكان الهدف منها السيطرة على مواقع النظام في ريف حماة الشمالي والتقدم صوب مركز المدينة، غير أن العملية توقفت قبل أن تستكمل كل مراحلها بسبب القصف الجوي العنيف من السلاح الجوي الروسي. أما باقي العمليات وهي بالعشرات فكلها كانت تطبيقا لمبادئ وأسس حرب العصابات، واللافت أنها كانت عمليات ناجحة ومتقنة ونجحت مجموعات هيئة تحرير الشام بالتوغل في عمق مناطق النظام وتنفيذ عملياتها الخاطفة هناك، ما يدل على أن هناك تدريبا عاليا ومكثفا على هذا النمط من العمليات ربما استعدادا لاعتماده خلال المرحلة القادمة.
ومن هذه العمليات: اقتحام مبنى الأمن السياسي ومبنى أمن الدولة بمدينة حمص في 25/02/2017 وقتل عدد من كبار الضباط ذوو الرتب العالية. تقدم مجموعة انغماسية تابعة للهيئة في حي جوبر الدمشقي في 19/03/2017 والسيطرة على مواقع النظام هناك وقتل عدد من جنوده وقد أطلقت الهيئة على العملية اسم “يا عباد الله اثبتوا”. وفي 16/06/2017 نفذت الهيئة عملية نوعية في “ميناء البيضا” في اللاذقية وفجرت سيارة مفخخة بداخله، وفي نفس اليوم قامت مجموعة إنغماسية تابعة لها باستهداف مبنى “الميتم” قرب المخابرات الجوية في مدينة حلب. في 2/08/2017 تسللت مجموعة من قوات النخبة في الهيئة إلى معاقل النظام في منطقة الملاح بمدينة حلب ونجحت في استهداف تجمعات من جنوده واغتنام أسلحتهم ثم الانسحاب دون أن تفقد المجموعة أيا من أفرادها. كما نفذت الهيئة عددا من العمليات النوعية بنفس الأسلوب في القلمون وأيضا ضمن غرفة عمليات ريف حمص الشمالي.
لقد حرصت قيادة هيئة تحرير الشام على تكوين مجموعات عسكرية عالية التدريب والكفاءة سمتها “قوات النخبة”، ومع غياب معلومات كافية عن عددها وصلاحياتها وطبيعة المهمات الموكلة إليها، إلا أن عملياتها تتميز بالهجوم المباغت والتوغل في عمق مواقع النظام وسرعة في التنفيذ والانسحاب، فهل هذه القوات مجرد طليعة مقاتلةأعدت لتدشين مسار حرب عصابات قد تمتد لسنين.
خلاصة
غادر الجولاني الأراضي العراقية في 2011 حاملا معه خطة مكتوبة وافق البغدادي على بنودها، من أجل تأسيس حركة جهادية في سوريا مستفيدا من التجربة العراقية التي واكب أحداثها منذ أيام الاحتلال الأولى، هذه التجربة إضافة إلى المدرسة الجهادية التي ينتمي إليها (الجهادية العالمية) وهي المدرسة التي تقرأ الصراع في أبعاده الكبرى وتعتمد تحليلا كلياً لمعطياته وتفاصيله عززت رؤيته الاستشرافية ونظرته المستقبلية. فكان دائما هاجس المستقبل وهاجس مصير الثورة من محددات الفعل الثوري لدى جبهة النصرة وجبهة فتح الشام ثم هيئة تحرير الشام، وبالتالي فمبادرة الإدارة المدنية للمناطق المحررة والاستعداد لحرب العصابات خياران تم التوصل إليهما بعد قراءة “جهادية” مستفيضة للواقع والمستقبل.
ويمكن لأي تقارب بين هيئة تحرير الشام وتركيا أن يكون مفتاحا لآفاق أخرى أقل قتامة بالنسبة للشمال السوري المحرر، لكن تقلبات الموقف التركي تجاه الهيئة أبقى العلاقة بين ضفتي معبر باب الهوى متوترة ومفتوحة على كل الاحتمالات، فخلال سيطرة هيئة تحرير الشام على الشمال السوري التزمت تركيا الصمت ولم تحاول تعزيز الموقف العسكري لحلفائها من المعارضة السورية وهم يفقدون آخر معاقلهم المطلة عليها، خطوة اعتبرها البعض تفهما من الجانب التركي لتحركات الهيئة حيث عبر مسؤولون أتراك عن ارتياحهم بعد تسليم الهيئة معبر باب الهوى إلى إدارة مدنية مستقلة، هذا الموقف المتفهم استدعى تصريحات شديدة اللهجة من الولايات المتحدة التي اتهمت تركيا بالتواطؤ مع القاعدة لتسهيل سيطرتها على إدلب وريفها. وبعد أيام من هذا الموقف التركي صرح اردوغان بعد لقاءه برئيس الأركان الإيراني محمد باقري أن تركيا وإيران قد تقومان بعملية مشتركة ضد الإرهاب، ورجح مراقبون أن تكون مدينة إدلب مجالا لهذا التحالف والتعاون بين الجانبين5.
الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا وصعود الرئيس ترامب إلى سدة الحكم في أمريكا والأزمة الخليجية المتفاقمة التي ألقت بظلالها على المشهد الثوري في سوريا، وهزيمة تنظيم الدولة في الموصل وقرب هزيمته في سوريا، ودخول فصائل ثورية كثيرة في برنامج الهدن والمصالحات مع نظام الأسد، وتوقف الدعم الخارجي لقوات المعارضة “المعتدلة”.. هذه المستجدات على الساحتين الإقليمية والدولية وأيضا المحلية تعني أن على الثوار المقتنعين والمتشبثين بجدوى الخيار العسكري ضد نظام الأسد الاعتماد على إمكانياتهم الذاتية، وبالتالي استدعاء مبادئ حرب العصابات إلى ساحة الفعل الثوري اضطرارا لا خيارا، خصوصا ومشروع الإدارة المدنية الموسعة لا يبدو أنه سيروق للقوى الكبرى وإن لقي قبولا وترحيبا من سكان المناطق المحررة. (6).
——————————
الهامش
(1)بيان جبهة فتح الشام حول الأحداث الأخيرة، عكس السير، بتاريخ 24/01/2017.
(2)الانتقال إلى حرب العصابات دعوة مشبوهة لاستسلام الثورة، الدرر الشامية، بتاريخ 14/12/2016.
(3)حرب العصابات، عبد الرحمن الأسيف (قائد سرايا الغرباء في لواء التوحيد سابقا)، مدونة كتابات، بتاريخ 7/02/2017
(4) أبو مصعب السوري، دعوة المقاومة الإسلامية العالمية، ص: 1405
(5) 5 – «سر» التقارب التركي – الإيراني: عوامل تدفع باتجاه «تفاهمات مرحلية»، صحيفة الأنباء الكويتية، بتاريخ 23/08/2017