عبد الغني مزوز—
بعد التدخل الروسي المباشر لصالح نظام بشار الأسد في 30/09/2015 أخذت الثورة السورية منعطفا جديدا كانت أهم ملامحه تراجع الأداء الثوري في أكثر من صعيد، وخسارة الثوار لمدينة حلب أهم مدينة محررة منذ عسكرة الثورة. طرحت روسيا موازاة مع انتصارات حلفائها على الأرض مسارا تفاوضيا جديدا منافسا لمسار جنيف الذي رعاه الغرب، واختارت العاصمة الكازاخية أستانا مقرا لجولاته المتعاقبة. استجابت المعارضة السياسية وبعض القوى العسكرية لدعوات الأطراف التي تشرف على المحادثات هناك وهي كل من روسيا وإيران وتركيا، فشاركت في نسخها الست التي يمكن تلخيص الخطوط العريضة التي رسمتها في: وقف إطلاق النار وإقرار آليات لمراقبته ومحاربة الإرهاب وتبني حل سياسي للأزمة يقطع مع المقاربات العسكرية غير المجدية.
تزامنا مع الجولة الأولى لمفاوضات أستانا شهدت الثورة السورية ميلاد جسم ثوري كبير جمع معظم القوى العسكرية الفاعلة في الساحة واختار لنفسه اسم “هيئة تحرير الشام”، وجد هذا الجسم الثوري نفسه معنيا بكل مخرجات أستانا خصوصا فيما يتعلق منها ببند محاربة الإرهاب، وتدخل قوات أجنبية لمراقبة وقف إطلاق النار. في الأيام الماضية وجدت هيئة تحرير الشام نفسها في مواجهة وشيكة مع الجيش التركي كنتيجة لاصطدام مسارين متناقضين؛ مسار سياسي انخرطت فيه تركيا كطرف ضامن للمعارضة، ومسار ثوري جهادي يتوخى اعتراض المسارات السياسية ولا يعترف بمخرجاتها.
مسار أستانا والتدخل التركي
عقب خروج قوات المعارضة المسلحة من مدينة حلب انعقد في العاصمة الروسية موسكو في 20/12/2016 اجتماع ثلاثي ضم روسيا وإيران وتركيا، تمخض عنه ما سمي بـ “إعلان موسكو” القاضي بتوسيع وقف إطلاق النار ليشمل حلب وكافة الأراضي السورية، باستثناء المناطق التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة فتح الشام، والاتفاق على صيغة لحل الأزمة السورية سياسيا وتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2254. وكان هذا الإعلان بمثابة نعي لمسار جنيف الذي رعته الولايات المتحدة وميلاد مسار سياسي جديد تنطلق فعالياته من العاصمة الكازاخية أستانا.
يمكن اختصار مسار استانا بجولاته المتعددة في هذه النقاط:
في 23/01/2017 شهدت أستانا انعقاد أولى جلسات التفاوض، حيث دعت روسيا فصائل المعارضة المسلحة وبعض الشخصيات السياسية إلى المشاركة فيها، فحضر وفد المعارضة برئاسة محمد علوش القيادي في جيش الإسلام، واتفق المجتمعون على ضرورة حل الأزمة سياسيا وعلى إنشاء آلية ثلاثية لمراقبة وقف إطلاق النار، ومحاربة الجماعات الإرهابية ممثلة في جبهة فتح الشام وتنظيم الدولة الإسلامية.
في 15/02/2017 انعقدت الجولة الثانية من مباحثات أستانا، وكان من أبرز ما أسفرت عنه: تشكيل مجموعة عمل ثلاثية (روسية تركية إيرانية) لمراقبة وقف الأعمال القتالية، ومطالبة وفد المعارضة بتثبيت وقف إطلاق النار، وإيصال المساعدات إلى المناطق المحاصرة.
في 14/03/2017 شهدت أستانا انعقاد الجولة الثالثة من المفاوضات بين وفدي النظام والمعارضة، وتقدمت خلالها روسيا بمسودة للدستور، وأكد البيان الختامي لهذه الجولة -التي انسحب فيها وفد المعارضة-على اتفاق الدولة الضامنة على اعتماد لجان لمراقبة الهدنة ومتابعة ملف المساعدات والأسرى والمعتقلين.
في 4/05/2017 اتفق المجتمعون في “أستانا 4” على إقامة مناطق لخفض التصعيد، تشمل كامل محافظة إدلب ومحافظة اللاذقية ومحافظة حلب وأجزاء من محافظات حماة وحمص ودرعا والقنيطرة، ومنطقة الغوطة الشرقية بريف دمشق.
في 4/07/2017 أخفقت الدول الضامنة الثلاث في رسم حدود مناطق خفض التصعيد، لكن تم الاتفاق على عقد لقاءات لاحقة من أجل اعتماد خرائط نهاية للمناطق المعنية بخفض التوتر وتعيين حدودها، وهكذا أسدل الستار على النسخة الخامسة من مفاوضات أستانة في انتظار جولة جديدة.
في 14/09/2017 تداعت مجددا أطراف الأزمة إلى أستانا لكن هذه المرة من أجل التوقيع على جولة الحسم، حيث عرفت “أستانا 6” حضور وفد موسع للمعارضة ضم حركة أحرار الشام، ووفد من الولايات المتحدة والأمم المتحدة، إضافة إلى وفد قطري وأردني. وتم الاتفاق على تحديد مناطق خفض التصعيد بما فيها منطقة إدلب كمنطقة رابعة إضافة إلى المناطق الثلاث المحددة مسبقا وعلى نشر قوات على الأرض للمراقبة، كما قدمت فصائل المعارضة “المعتدلة” خرائط مواقعها وانتشارها بهدف استثنائها من القصف والتدمير الذي سيطال الفصائل المصنفة على قوائم الإرهاب .
مع تثبيت منطقة خفض التصعيد الرابعة في محافظة إدلب، توجب على تركيا وفق ما تم الاتفاق عليه مع الأطراف الضامنة الأخرى مراقبة المحافظة المحادية لحدودها مع ما سيستتبعه ذلك من إرسال قواتها إلى هناك، وتحدث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال وجوده في نيويورك في 21/09/2017 عن عزم بلاده إرسال قوات عسكرية إلى إدلب في إطار تطبيق مخرجات “أستانة” وقال: “اتفاق منطقة خفض التصعيد كان فكرة واعدة يحفظ بموجبها الروس الأمن خارج إدلب بينما تحفظ تركيا الأمن داخلها”
واصلت تركيا إرسال الحشود العسكرية إلى حدودها مع محافظة إدلب، لكنها لم تعلن عن موعد دخولها إلى المحافظة ولا عن شكله وحجمه، بينما رجح بعض المراقبين أن جزءًا من تلك الحشود قد يتجه إلى منطقة عفرين التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، خصوصا بعدما طغى الملف الكردي على اجتماع مجلس الأمن القومي التركي في 22/09/2017. ظل الغموض يكتنف الموقف على الحدود السورية التركية حتى أعلن أردوغان في 7/10/2017 عن انطلاق عملية عسكرية للجيش السوري الحر مدعوما بغطاء جوي روسي في إدلب، وأكد أن بلاده تتحرك مع روسيا من أجل ضمان حماية الناس هناك.
عملية عسكرية تركية في إدلب تبدو خارج المفهوم الطبيعي لحسابات الأمن القومي التركي، كما أن ارتباك القيادة التركية طيلة الأسابيع الماضية يؤكد أن هناك نوعا من التوجس من عملية لا تصب نتائجها في النهاية إلا في مصلحة النظام السوري وحلفائه، والقوى الكردية التي مازالت تمد نفوذها في الشرق السوري بدعم أمريكي سخي، وتركيا من جهة أخرى لا تغفل عن الإشارات الودية التي تبعثها هيئة تحرير الشام ورغبة هذه الاخيرة في إقامة علاقات متوازنة معها كطرف فاعل وثيق الصلة بقضية الثورة.
إذن، فالعقل الإستراتيجي التركي الذي بنى تميزه في مرحلة سابقة على قاعدة “تصفير المشاكل مع الجيران” لا يريد أن يتورط في عداوات مجانية مع طرف يمكن التفاهم معه بل وصياغة شراكات معه على أكثر من صعيد. فإذا كانت الولايات المتحدة مصرة على دعم الفصائل الكردية بكل أنواع الأسلحة مع أن تركيا أدرجتها في قوائم الإرهاب، فما الذي يجعل تركيا “تتطوع” لمحاربة أهم فصيل ثوري فاعل على الساحة حاليا، كما أن مسألة تصنيفه على قوائم الإرهاب لم تكن وجهة نظر تركية بالأساس. وهذا ما يفسر ربما تردد القوات التركية المتمركزة على الحدود ثم توافقها في اللحظة الأخير مع هيئة تحرير الشام على تواجد محدود للمراقبين الأتراك على بعض النقاط في المحافظة، وكان لافتا مشهد الموكب الذي ضم سيارات من الهيئة والمراقبين الأتراك وهم يعبر الحدود إلى الداخل السوري.
هيئة تحرير الشام والمسار المضاد
تأسست هيئة تحرير الشام في سياق إعادة تركيب المشهد الثوري في سوريا، بعد النكسات التي مني بها الثوار في أكثر من جبهة خصوصا في حلب، وجاء بيانها الأول في 28/01/20177 عقب انعقاد الجولة الأولى من مفاوضات “أستانة” التي أرادت من خلالها روسيا تحقيق مكاسب سياسية موازاة مع انجازاتها الميدانية. وتزامنا مع محادثات “أستانة 1” في 23/01/2017 شنت “جبهة فتح الشام” هجوما على فصائل “الجبهة الشامية” و”جيش المجاهدين” و”تجمع فاستقم كما أمرت” و”ألوية صقور الشام” وأرغمتها على حل نفسها أو الانضمام إلى حركة أحرار الشام الإسلامية وعللت الجبهة خطوتها بـ “مشاركتها (أي تلك الفصائل) في مؤتمر أستانا ضمن سقف مذل للثورة والجهاد” وتوقيعها على تعهدات تقضي بمحاربة المنظمات الإرهابية بما فيها جبهة فتح الشام و”سعيا لمنع تكرار سيناريو حلب والجبهة الجنوبية” و”من أجل الارتقاء بحالنا إلى كيان سياسي عسكري يليق بتمثيل الثورة المباركة”.
ثم أعلنت الجبهة عن توحدها مع كل من “حركة نور الدين زنكي” و “لواء الحق” و”جبهة أنصار الدين” و”جيش السنة” وتشكيل “هيئة تحرير الشام”، فكان الإعلان عن هذا الجسم الثوري الجديد -بعد تفكيك ما بات يعرف بفصائل الأستانة- بمثابة التأسيس لمسار ثوري مناهض لمسار التسوية السياسية الذي تشرف عليه الدول الضامنة الثلاث (تركيا وإيران وروسيا)، وتعتبر هيئة تحرير الشام نفسها معنية بإفشال كل ما يتمخض عن مسار التسوية السياسية من مخرجات ومقررات، حتى وجدت أخيرا نفسها في مواجهة وشيكة مع تركيا باعتبارها طرفا مكلفا بتنفيذ ما اتفقت عليه الدول الثلاث في مناطق سيطرة المعارضة.
واكبت هيئة تحرير الشام محطات أستانة المتعاقبة بالبيانات المنددة أحيانا وبالتحركات الميدانية أحيانا أخرى، فبعد انتهاء الجولة الثالثة من المحادثات والتي أكدت على ضرورة وقف إطلاق النار واعتماد لجان لمراقبة الهدن المبرمة في عدد من المناطق السورية، أعلنت هيئة تحرير الشام عن معركة “يا عباد الله اثبتوا” في 19/03/2017 تقدمت على إثرها قواتها في حي جوبر الدمشقي وتمكنت من السيطرة على عدة نقاط قريبة من وسط العاصمة. وفي 21 من الشهر نفسه أعلنت الهيئة عن معركة “وقل اعملوا” في ريف حماة الشمالي واستمرت عدة أيام. من الواضح أن هيئة تحرير الشام تسعى إلى فرض واقع جديد على الأرض، يُعوض ما خسرته الثورة من مدن ومعاقل خلال الفترة الماضية، ويقوض جهود التسوية السياسية، التي تعني بالنسبة إليها نهاية الثورة السورية وإعادة إنتاج النظام الطائفي بوجه جديد ودماء جديدة.
بعد الاتفاق في “أستانة 4” على إقامة مناطق خفض التصعيد في بعض المحافظات السورية من بينها محافظة إدلب، وتفاهم الدول الضامنة على نشر قوات لمراقبة المناطق المعنية، أصدرت لجنة الفتوى في المجلس الشرعي التابع لهيئة تحرير الشام بيانا في 9/05/20177 اعتبرت فيه لقاء أستانا حلقة من “مسلسل التآمر على جهاد أهل الشام وثورتهم” وحذرت فصائل درع الفرات من مغبة الإقدام على التوغل داخل المناطق التي تسيطر عليها الهيئة، وأكدت على “أن الموافقة على اتفاقية أستانا والرضا بها خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين”. وبعد تصريحات المتحدث باسم الرئاسة التركية عن قرب دخول قوات تركية وروسية إلى مدينة إدلب في سياق تفاهمات أستانا أصدرت هيئة تحرير الشام بيانا في 25/06/20177 عبرت فيه عن رفضها للخطوة التي تهدف –حسب البيان- إلى تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ بين القوى الدولية.
مع تصاعد الحديث عن التدخل التركي، تفاوتت مواقف المكونات الثورية إزاءه بين الرافضة له والمرحبة به، ولما كانت حركة أحرار الشام الإسلامية من أكبر الفصائل الثورية في سوريا فإن موقفها من مسألة التدخل التركي يعتبر مهما ومؤثرا مقارنة بمواقف غيرها، لم تُخْفِ الحركة ترحيبها بالخطوة وأعلن قادتها أنهم لن يحولوا دون توغل الأتراك داخل محافظة إدلب في إطار مراقبتهم لمنطقة خفض التصعيد في المحافظة.
وعلى هذا الأساس إضافة إلى عوامل أخرى منها إيواء حركة أحرار الشام لبعض العناصر الذين تتهمهم الهيئة بتصفية أفرادها، قررت هيئة تحرير الشام في 16/07/2017 العمل على تحجيم قوة أحرار الشام وطردها من المحاور التي يمكن أن تتوغل منها أي قوة تريد الوصول إلى مدينة إدلب، هكذا وفي غضون ثلاثة أيام سيطرت الهيئة على معظم مقرات أحرار الشام لتكون بذلك القوة العسكرية الأهم في الشمال المحرر. ثم تقدمت الهيئة بمقترح الإدارة المدنية للمناطق المحررة في 23/07/20177 بهدف تجنيب المناطق المحررة القصف والتدمير وليتفرغ الثوار للجبهات.
ردا على إقرار منطقة تصعيد رابعة في إدلب خلال لقاءات “أستانة 6” وما يعنيه ذلك من ضرورة دخول قوة ضامنة لمراقبتها والإشراف عليها، أطلقت هيئة تحرير الشام معركة أخرى في ريف حماة الشمالي في 18/09/2017 تمكنت من خلالها من التقدم والسيطرة على عدة نقاط، وكبدت النظام السوري خسائر فادحة في الأرواح والمعدات واستمرت المعركة حتى تمكنت الهيئة من بسط سيطرتها على قرية ابودالي، وهي قرية إستراتيجية موالية للنظام من المفترض أن تتمركز فيها القوات الروسية حسب التقسيم المعتمد لمناطق خفض التصعيد، ما يعني أن الهيئة تمكنت من تسديد ضربة أخرى لمسار أستانا وما أسفر عنه من تفاهمات.
أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 7/10/2017 عن عملية عسكرية للجيش السوري الحر مدعوما بغطاء جوي روسي في محافظة إدلب، كما نُشرت عدة مقاطع على الإنترنت تظهر مجموعات من الجيش الحر وهي تستعد للتوجه إلى حدود تركيا مع المحافظة. وردا على هذه التحركات أصدرت هيئة تحرير الشام في اليوم التالي بيانا حذرت فيه قوات درع الفرات من الاقتراب من إدلب متوعدة إياها بالحرب والإبادة، وكان لافتا أن البيان لم يتضمن أية إشارة سلبية إلى تركيا ما يعني أن الهيئة مازالت تأمل في التوصل مع الأتراك إلى تفاهم يُجنب المنطقة مأساة أخرى لن تكون في صالح الثورة السورية ولا الدولة التركية. وفي اللحظات الأخيرة نجحت هيئة تحرير الشام في التوصل إلى اتفاق مع الجانب التركي لم تتضح تفاصيله بعد لكن يبدو أنه جنب وقوع الأسوأ.
الموقف التركي من هيئة تحرير الشام
تفاهم اللحظة الأخيرة بين تركيا وهيئة تحرير الشام -بغض النظر عن إمكانية صموده- إلا أنه يعكس الموقف التركي من الهيئة كفصيل ثوري يمكن التفاهم معه، وهذا ما أكدته مجمل المواقف التركية حيال ما يجري في الشمال المحرر خصوصا بعد سيطرة الهيئة عليه في يوليو الماضي، حيت لم تبادر تركيا إلى دعم حليفتها “حركة أحرار الشام” في معاركها مع الهيئة ولم تبعث إليها بتعزيزات من منطقة درع الفرات، كما أن تركيا لم تُغلق معبر باب الهوى بعد سيطرة هيئة تحرير الشام عليه بل اكتفت بتخفيض مرور السلع غير الإنسانية قبل أن يعود المعبر إلى العمل كما في السابق.
ورغم تصريح رئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم في 19/08/2017 عن احتمال قيام بلاده بعملية عسكرية في إدلب، إلا أنه توعد في ذات التصريح بمواجهة ” كل أشكال الإرهاب خاصة خارج حدود تركيا” محيلا على تعريف تركيا للإرهاب الذي يعطي الأولوية للفصائل الكردية على حدودها أكثر من المجموعات المسلحة الأخرى. وقد يبدو الموقف التركي من هيئة تحرير الشام مشابها للموقف الأمريكي من حزب الإتحاد الديمقراطي الكردي، فرغم أن هذا الأخير يُعتبر الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني الذي تعتبره الولايات المتحدة منظمة إرهابية إلا أنها ترى فيه حليفا موثوقا وتقدم له كافة أشكال الدعم والمساندة. وإذا كانت واشنطن تصر على اعتبار هيئة تحرير الشام فرعا سوريا لتنظيم القاعدة فإن تركيا من باب الاحتجاج على الموقف الأمريكي من منظمة PYD لن تجد مشكلة في التفاهم مع الهيئة بل ودعمها إن كان ذلك يصب في صالح أمنها القومي.
سيناريوهات المستقبل
كان الالتباس وعدم الوضوح السمة البارزة لعلاقة تركيا مع هيئة تحرير الشام منذ إعلانها، مرورا بسيطرتها على معظم الشمال المحرر، وانتهاء بالاشتباك الوشيك بينهما في الأيام القليلة الماضية، وحتى عندما تُصرح تركيا في أكثر من مناسبة عن عزمهما محاربة الجماعات الإرهابية على حدودها فإنها غالبا ما تترك تصريحاتها قابلة لأكثر من فهم وتفسير، فالفصائل الكردية التي تصنفها تركيا في لوائح الإرهاب توجد أيضا على حدودها، وتُشكل خطرا على الأمن القومي التركي أكثر من غيرها. وانطلاقا من هذه العلاقة الملتبسة بين تركيا وهيئة تحرير الشام والدينامية المتسارعة لمعطيات المشهد السوري يمكن استشراف مآلات العلاقة بين الطرفين ضمن عدة سيناريوهات محتملة.
السيناريو الأول: الحل التوافقي:
تفاهم هيئة تحرير الشام مع تركيا على حل توافقي يراعي حساسية الهيئة تجاه الوجود الأجنبي على الأراضي المحررة، وتضمن من خلاله تركيا أمنها القومي، كأن تكتفي تركيا بإرسال مجموعات عسكرية صغيرة إلى نقاط محددة تطل على عفرين معقل الأكراد في غرب سوريا، وقد يكون هذا ما تم التوافق عليه في المفاوضات بين الجانبين، وتبدو هذه الصيغة معقولة وقابلة للتطبيق، فالمشروع الكردي في عفرين هاجس مشترك بين الطرفين. وقد تجد تركيا نفسها في حل من أي التزام بما تقرر في جولات أستانا المتعاقبة لو استمر تقدم هيئة تحرير الشام على الأرض وقوضت المزيد من حدود مناطق خفض التصعيد على غرار ما وقع في قرية أبو دالي.
السيناريو الثاني: المواجهة
أن تدخل قوات من درع الفرات مدعومة بغطاء جوي روسي تركي إلى محافظة إدلب، وهو ما يعني نشوب معارك طاحنة في المدينة وأريافها، ونزوح مئات الآلاف إلى الحدود التركية، وخلق مأساة إنسانية أخرى قد تشبه تلك التي حصلت في حلب، فهيئة تحرير الشام لن تترك مواقعها خصوصا لفصائل درع الفرات التي تزدريها الهيئة في خطابها الرسمي وتنظر إليها نظرة احتقار ودونية، وبيان المجلس الشرعي المشار إليه سابقا واضح في هذا السياق، وهو عبارة عن فتوى شرعية ملزمة لقيادة وجنود الهيئة بوجوب قتال أية قوة تدخل المناطق المحررة حتى النهاية. وقد يتفاقم هذا السيناريو ليفضي إلى مواجهة مباشرة بين تركيا وهيئة تحرير الشام وتبادلهما الضربات في العمق. فالهيئة ترى أن أي تدخل خارجي في إطار التفاهمات الدولية يعني انتهاء الثورة السورية، وترى أن أي قتال جانبي مع الأتراك يعتبر أيضا نهاية للثورة، وإذا كانت الثورة ستنتهي في الحالتين فليكن لنهايتها ثمن يدفعه الجميع.
السيناريو الثالث: تراجع الهيئة:
انسحاب هيئة تحرير الشام من محافظة إدلب أو من مراكزها الحضرية، وإفساح المجال لدخول القوات التركية أو غيرها من القوات الراعية لمقررات أستانا. وهذا السيناريو يبدو مستبعد بالكلية، فمنذ تدشين مسار أستانا وهيئة تحرير الشام تحاول بمختلف الوسائل إفشاله بدءا بتفكيك الفصائل المشاركة فيه وانتهاء بسيطرتها على قرية أبو دالي الإستراتيجية. لا يمكن أن نغفل عن الهوية الجهادية لهيئة تحرير الشام وأطروحاتها العقدية المتناقضة كليا مع التدخلات الخارجية تحت أي ذريعة كانت، وبالتالي فمقاومة أي قوة تدخل المناطق المحررة هو أمر محسوم عند الهيئة شرعيا واستراتيجيا، وتنحسر خيارات المعركة عندها آنذاك في أبعادها التكتيكية.
ربما كان الخطاب السياسي لهيئة تحرير الشام يتسم ببعض المرونة مقارنة بالتنظيمات السلفية الجهادية المعروفة، إلا أنه لم يصل إلى مرحلة السيولة التي يتقبل بها مشاريع متناقضة مع هويتها الثورية وعمقها الجهادي، ولذلك فالسيناريوهات المحتملة لوضع تكون طرفا فيه تتراوح بين الوصول لحلول وسط أو الانخراط في مواجهة دامية معها، لكن لا يبدو سيناريو استسلامها وانسحابها مطروحا.